كان كتاب الله - عز وجل - محل عناية المسلمين منذ نزوله علي الرسول - صلي الله عليه وسلم - واهتم المسلمون بكل آية تنزل فتلقوها وتناقلوها فيما بينهم حتي استظهر القرآن غيرُ واحد، وكثر عدد الحفاظ من الصحابة - رضوان الله تعالي عليهم - وكان النبي - صلي الله عليه وسلم - حريصاً علي ضبط النص القرآني بنفسه، فكان كلما نزلت آية جمع الكتبة من الصحابة فأمرهم أن يضعوها في سورة كذا بعد آية كذا، وظل الأمر هكذا حتي توفي - صلي الله عليه وسلم - ولم يجمع القرآن؛ لأن القرآن كان يتنزل عليه (منجَّماً) أي علي دفعات، وبالتالي لم يكن بإمكانه أن يجمعه وهو لا يعرف متي ينتهي نزول الوحي. كان بعض المسلمين ممن يجيدون الكتابة يكتبون القرآن علي (جريد النخل) و(الحجارة الرقيقة) و(قطع الجلد) و(عظام الحيوانات) وغيرها من مفردات هذه البيئة العربية في ذلك الوقت، فكان كل واحد من هؤلاء (الكَتَبَة) لديه مجموعة من السور المتفرقة التي كتبها كما تلقاها عن النبي صلي الله عليه وسلم. وبعد وفاة النبي - صلي الله عليه وسلم - وفي خلافة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قُتل نحو سبعين من حفظة القرآن في (حرب الردة)، فحزن المسلمون لذلك وخافوا علي القرآن من الضياع، واقترح عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - علي الخليفة أبي بكر أن يجمع القرآن الكريم حتي يرجع إليه المسلمون في كل بقاع الأرض. وحتي عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان المصحف بدون نقاط تحت أو فوق الحروف؛ لأن العرب كانوا من الفصاحة بحيث يسهل عليهم التفريق بين الياء (ي) والتاء (ت) دون وجود نقاط تحت الياء أو فوق التاء، وبين الحاء (ح) والخاء (خ).. وهكذا، فلما جاء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأمر بوضع النقاط في المصحف كان ذلك إبداعاً جديداً لتيسير فهم الأجيال للقرآن، وعلي يد اللغوي المعروف أبي الأسود الدؤلي تم (ضبط) تشكيل القرآن أيضاً في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه. كذلك تم تقسيم القرآن إلي ثلاثين جزءاً، ثم كل جزءٍ إلي ثمانية أرباع في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك سنة 110 ه، ثم وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي - رحمه الله - علامات الوقوف والابتداء لتُنظم القراءة وتصل بها إلي المعني المراد بيسر وسهولة، وهو ما عُرف بعد ذلك بعلم (الوقف والابتداء). واهتم المسلمون بعلم التفسير اهتماماً بالغاً، وظهرت تفاسير كثيرة منها ما اعتمد علي الأثر يعني الأحاديث والمرويات، ومنها ما اعتمد علي الرأي بعد أن كان المسلمون يتورعون عن التفسير مخافة أن يؤولوا القرآن علي غير مقصود التنزيل. ثم جاء بعض العلماء ووضعوا قواعد التجويد الجامعة للقراءة، وهي الأحكام التي تؤدي بها القراءة، ومنها ضبط مخرج كل حرف من حروف العربية وما صاحَبَه من أحكام مترتبة علي تعاقب الحروف مثل الإدغام والإظهار وغيرها؛ لكي يقرأ المسلمون المتعاقبون القرآنَ كما كان يقرأه النبي - صلي الله عليه وسلم - عن رب العزة سبحانه وتعالي. ومع دخول غير العرب في الدين الإسلامي كان لابد من ظهور ترجمة معانيه للغات الأخري، وإن كانت متأخرة - وقد كانت فكرة جديدة طرأت سنة 553ه حيث تُرجمت معاني القرآن إلي اللغة اللاتينية لتخاطب غير العرب بلسانهم. علي أن المُلفت للنظر أن كل مراحل التجديد هذه استغرقت حوالي ستمائة سنة، وهو ما يعني أنه كلما كان يظهر جيل لا يستصعب لغة القرآن، فقد كان الإبداع يظهر لتيسير فهم القرآن علي الناس «ولقد يسرنا القرآن للذكر»؛ وهو الأمر الذي جعل القرآن فعالًا عبر القرون. ثم فجأه توقف كل شيء، فأصبح هناك جمودٌ فكري وتقيُّدٌ بالتقليد وتخوفٌ من الإبداع، وازدادت الأجيال بعداً عن القرآن، مما أدي إلي ظهور مفاهيم فاسدة ومتطرفة نتيجة الجهل بالقرآن الكريم ومقاصده العليا! والذي زاد الأمر صعوبة في الثلاثين سنة الأخيرة: أن طريقة تعليم أولادنا في المدارس قائمة علي وجود أهداف لأي موضوع، ثم عناصر تدل علي هذه الأهداف، ثم ملخص واستنتاج، لكن عندما يقرأ أولادنا القرآن لا يجدون ذلك... والذي جعل الأمر أصعب وأصعب في العشر سنين الأخيرة: أن حركة الحياة صارت سريعة جداً، فالبرامج اختصرت من ساعة إلي عشر دقائق، فلم يعد هناك الوقت الكافي لقراءة كتب أهل العلم بطريقة مفصلة علي الناس، وصار ذلك فقط للمتخصصين. في المؤسسات العلمية. ولقد أنزل الله - سبحانه وتعالي - القرآن هداية للبشر جميعاً، فإذا كان الناس لا يستطيعون فهمه جيداً بفهم الصحابة والتابعين وسلف الأمة الصالحين - رضوان الله عليهم -؛ فإن هذا يُؤدي إلي استغلال جهل الناس بالفهم الصحيح لترسيخ الفهم الأعوج؛ لذا وجب علي علماء المسلمين ابتكار حلول إبداعية لتيسير فهم القرآن فهماً صحيحاً قويماً كما كان علماء كل عصر يقومون بهذا الأمر في عصرهم.