الذي يعيش خارج حدود وطنه يجرفه الحنين إلي العودة إليه. والذي يعيش داخل وطنه يجرفه الحنين إلي مهبط رأسه ومرتع طفولته وصباه. إنه الحنين إلي الجذور. وكثيرا مايشدني الحنين إلي مهبط رأسي حيث تفتحت عيناي علي الحياة، وعرفت فيها ملاعب الطفولة وأوهام الصبا وأحلام الشباب. ومن منا يمكن أن ينسي كل هذه الذكريات.. عن الأحباب الذين عاش معهم وغيبهم الموت، أو الذين مازالوا علي قيد الحياة وتربطنا بهم الذكريات. والذي يقرأ كتب الأدب والتراث، يراها مملوءة بالحنين إلي أيام الطفولة، وماكتبه الأدباء والشعراء عن أوطانهم يبرز هذا المعني حتي لو كان مكان الميلاد مجرد طلل من الاطلال! ومن يقرأ كتب التاريخ سوف يتوقف كثيرا عند هذه الظاهرة، ويحاول أن يسير أغوارها فلايجد إجابة ولاتفسيرا. إن الفيلسوف سقراط عندما حبس ودخل السجن وحكم عليه بالإعدام، حاول بعض تلاميذه تهريبه من السجن وإبعاده عن وطنه ولكنه رفض وواجه الموت بشجاعة نادرة. ورسولنا العظيم الذي غير مسار التاريخ الإنساني كله، عندما أرغمه قومه أن يخرج من وطنه كله، نظر إليه بعينين دامعتين، وهو يودعه وكأنه لايريد أن يغادره قائلا: «والله إنك لأحب بلاد الله إلي الله وأحب بلاد الله إلي نفسي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ماخرجت». وعبدالرحمن الداخل «صقرقريش» الذي هرب من بلاده بعد سقوط الخلافة الأموية، واتجه إلي الأندلس، وهناك أقام خلافة أموية قوية تضاهي الحكم العباسي في الشرق وكانت نهاية أوربا وتخاطب وده، ومع ذلك ظل يجرفه الحنين إلي الشام، وكان يرسل إلي أخته بالشام يحدثها عن هذا الحنين، ويقول عن وطنه أشعارا تنم عن مدي حبه لوطنه الذي غادره ولم ينساه حتي بعد أن أصبح من أقوي خلفاء المسلمين في الأندلس! وشاعرنا الكبير محمود سامي البارودي أحد قادة الثورة العرابية، ورئيس وزراء هذه الثورة سنة 1882، عندما هزمت هذه الثورة ونفي قادتها إلي جزيرة سيلان، ظل البارودي سبعة عشر عاما في المنفي، وكان منتهي أمله أن يري تراب وطنه قبل أن يواريه التراب، وكتب أجمل قصائده عندما رأي ابنته الوسطي في الحلم، وعبر عن عواطفه الجياشة عن وطنه وحنيه إلي أسرته وكان مطلع هذه القصيدة الجميلة : تأوب طيف من «سميرة» زائر وما الطيف إلا ما تريه الخواطر وعندما عاد من منفاه وكان ذلك في عام 1900، وكان قد فقد نور عينيه، إلا أنه استقبل وطنه بقوله: أبابل مرأي العين أم هذه مصر فإني أري فيها عيونا من السحر وأمير الشعراء أحمد شوقي عندما نفي من مصر إلي إسبانيا، هناك شعر بمعني كلمة الوطن، ومعني حب مصر، فكتب لصديقه حافظ ابراهيم عن غربته وحنينه إلي مصر ونيل مصر، وكل شيء في الوطن.. وقد عبر عن هذا الحب سنة 1917. بقوله : وطني لوشغلت بالخد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي إن العودة إلي الجذور.. والحنين للوطن فطرة فطر الله الإنسان عليها.. ومن لم يحب وطنه انسان معتل العقل، يتيم الوجدان.. مغيب عن الوعي، فاقد الإحساس بقيم الحق الخير والجمال.. إنه موطن الذكريات والأحلام والآمال المشتركة ومن هنا كان الإعجاب بما قاله الشاعر الفلسطيني محمود درويش. أحن إلي خبز أمي /وقهوة أمي ولمسة أمي وتكبر في الطفولة/ يوما علي صدر يوم وأعشق عمري لأني/ إذا مت أخجل من دمع أمي .. ما أجمل الوطن، وما أروع الحنين إلي الجذور. وقفة مع التاريخ ما نراه من فظائع ترتكب من فصائل الاسلام السياسي ضد المسلمين باسم الاسلام، بحجة الدعوة إلي احياء الخلافة يثير الشفقة علي قوم فقدوا عقولهم ويسيرون نياما.. لأنهم لم يفهموا الاسلام علي حقيقته.. فالإسلام لايدعو إلي القتل والإرهاب، والاسلام لم يدع إلي ترويع المسلمين، والخلافة نفسها وهم من الأوهام.. ففي ظل بعض الخلفاء ارتكبت من الجرائم ما يشيب من حوله الولدان كما يقولون. ولو قرأ هؤلاء المغيبون التاريخ لفكروا «ألف مرة في ان يعيشوا في الأوهام التي زرعها في عقولهم من لم يفهموا دين الله علي حقيقته، بل اتخذوه مطية لتحقيق أهداف دنيوية زائلة ما ارتكبه خلفاء بني أمية من جرائم في حق بيت رسول الله يثير الغثيان.. ويندي له الجبين.. فقد قتل الحسين بن علي حفيد رسول الله «صلي الله عليه وسلم» علي يد أعوان يزيد بن معاوية وبلغت الوقاحة بالخليفة انه كان يعبث برأس الإمام الحسين في حضرة أخته السيدة زينب دون أن يعلو وجهة حمرة الخجل! وقد أخذت أتأمل ما حدث عند قيام الخلافة العباسية من فظائع، وما فعله أحد خلفائهم وهو أبو العباس عبدالله بن محمد الذي أطلق عليه لقب السفاح من هول ما ارتكب من جرائم! الذي يقرأ كتاب «قيام دولة» للباحث ابراهيم الإبياري، يقف مذهولا من تصرف أحد الخلفاء العباسيين أبوالعباس عبدالله بن محمد الذي أطلق عليه السفاح من هول ما ارتكب من جرائم في حق بني أمية. وتري من خلال هذا الكتاب كيف نكل العباسيون بخصوصهم من بني أمية والعلويين بمالايصدقه عقل. لقد قتل هذا الخليفة من لاذ به الخصوم واصبحوا ضيوفا عليه! فقد أمنهم ثم قتلهم، وكان عددهم تسعين رجلا.. ودعا بالغذاء حين قتل هؤلاء، وأمر ببساط فبسط عليهم وجلس فوقه يأكل وهم يضطربون تحته، فلما فرغ من الأكل قال: ما أعلمني أني أكلت أكلة أهنأ ولا أطيب لنفسي منها! وأمر أن يجروا من أرجلهم والقائهم في الطريق.. ليلعنهم الناس أمواتا كما لعنوهم احياء! ويقول الراوي ولم يكن بعيدا عن هذا كله.. فرأيت الكلاب تجر أرجلهم وعليهم سراويل الوش حتي أنتنوا ثم حفرت لهم بئر فألقوا فيها.! ويحدثنا الباحث الكبير ابراهيم الابياري.. كيف مرضت نفس أبي العباس مرضا متصلا لم يشف منه هذا الذي من قتل تسعين رجلا نشدوا الأمن في جواره، ولم يشفها من قتل سليمان بن هشام بن عبدالملك وهو مستوثق منه بحرمة الضيافة، بل لقد فشا هذا المرض في نفس أبي العباس كلها، فهو مريض كله لامكان للسلامة من نفسه، يأمر بنبش قبور بني أمية بدمشق فينبشون قبر معاوية بعد ما يربو عن نصف قرن من موته فلا يجدون إلا حطاما كأنه الدمار. ويأمر بنبش قبر عبدالملك بن مروان بعد نحو نصف قرن من موته فيجدون فيه جمجمة! ويأمر بنبش قبور الخلفاء جميعا فلا يجدون في القبور إلا العضو بعد العضو غير هشام بن عبدالملك فقد وجدوه صحيحا في قبره، لم تبل منه الا أرنبة أنفه. يقول الرواة : إنه ما كان يظفر بهذه الجثة كاملة حتي أمر بضربها بالسياط، ثم أمر فصلبت، ثم أمر فحرقت، ثم أمر بها فزريت في الريح! ويقول الباحث : ولقد اقترفت أيدي الأمويين شيئا من هذا الاثم، وهذا التنكيل، ولكنهم اقترفوه ليرهبوا الثائرين من حولهم، فمضوا من عذر يقيم له حجة. ولكن أبا العباس اقترفها وليس بين يديه عذر يقول له حجة. ليس بين يديه ثائرون أو شبه ثائرين يرهبهم، ولكن يطفئ ثائرة نفسه وثائرة غضبه. واذا تركنا ما في هذا الكتاب ومايرويه من وحشية بعض هؤلاء الخلفاء، ورجعنا إلي كتب التاريخ التي تروي مافعله بعض الخلفاء لوجدنا صورا مماثلة. فقد نكب هارون الرشيد أعز اصدقائه من البراسكة ونكل بهم ووضعهم في ظلام السجون. أما ما فعله العثمانيون فهو يفوق الوصف فقد اتسمت عصورهم بظلم الدول التي فتحوها فران عليها التخلف والركود وغياب العدل وممارسة ضرب رعاياهم بالسياط.. هذه بعض الصور المخيفة مما يحدثنا عنها التاريخ في عهود الخلفاء.. والذي يريد بعض المغيبين العودة اليها!! كلمات مضيئة لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها «المتنبي»