من المؤكد تاريخياً بأن الثورة العباسية قد أسست أطول وأقوى مرحلة حكم فى تاريخ الإسلام فلا تذكر الحضارة الإسلامية إلا بين دفتى كتاب الدولة العباسية ولكن لم يتآمل الكثيرون فى سر قوتها وعظمتها . فالدولة العباسية بدأت فى إستلام كرسى الحكم بعد نجاحها فى ثورتها ضد الأمويين فى عام 750م وسقطت مع سقوط بغداد عام 1258 واستمرت حتى 1517 كرمز للدولة ودورها الديني في كنف الدولة المملوكية ولم تسقط الدولة العباسية إلا بعد سقوط الدولة المملوكية . ففي أعقاب معركة مرج دابق والتي انتصر بها السلطان سليم الأول العثماني على المماليك توجه بجيشه نحو الجنوب ففتح أغلب مدن بلاد الشام سلمًا ومنها انعطف نحو مصر حيث هزم آخر المماليك الأشرف طومان باي بعد معركة الريدانية قرب القاهرة وقد اصطحب معه لدى رجوعه من القاهرة آخر الخلفاء العباسيين المتوكل على الله الثالث والذي تنازل له عن الدولة وسلمه رموزها أي بردة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيف عمر بن الخطاب . ونشأت عدد من الدول التي حكمتها السلالة العباسية بحكم موقعها ورمزيتها في العالم الإسلامي حتى بعد زوال الدولة العباسية وفي بعض الحالات قامت الإمارات العباسية قبل زوال خلافتها وإن كان بشكل مستقل عنها كما لم يطلب أحد من هؤلاء الأمراء الحق بالدولة بعد زوال الدولة العباسية نهائيًا عام 1517 أو بعد إلغاء الدولة عام 1922 . وعمومًا فإنه لا يزال إلى اليوم يعيش في مختلف بقاع العالم الإسلامي عدد كبير من الأسر التي تعود بأصلها للأسرة العباسية ومنها بشكل أساسي في المملكة العربية السعودية واليمن وتركيا وإيران وبلاد الشام ومصر والسودان والهند وباكستان وأفغانستان وأوزباكستان . وعلى الرغم من انقراض آخر دولهم فى عام النكسة 1967م إلا أنه قد برز عدد من العباسيين في مواقع مؤثرة كالرئيس السوداني عمر حسن البشير والشيخ أبو قصي ماجد العباس مؤذن المسجد الحرام في مكة وغيرهما . إمارة بهدينان: أقدم الإمارات العباسية المستقلة تأسيسًا ويعود قيامها إلى عام 1367 في كردستان العراق على يد الملك بهاء الدين العباسي أحد أحفاد الخليفة المستعصم بالله. وكانت مدينة العمادية الواقعة في محافظة دهوك حاليًا عاصمتها وقد تمددت في أوجها لتشمل أجزاءً من محافظتي أربيل ونينوى . وعاشت هذه الإمارة زمنًا طويلاً استطاعت فيه الحفاظ على استقلالها رغم كونها تقع على حدود إمبراطوريتين عظيمتين ومتحاربتين بشكل دائم هما الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصفوية وعلى الرغم من ذلك فلم تكن نهايتها على يد إحدى هاتين الإمبراطورتين بل على يد إمارة كردية منافسة وقريبة ومنها هي إمارة سوران عام 1834 . وسرعان ما قضى العثمانيون على هذه الإمارة أيضاً وأتبعوها لولاية الموصل العثمانية وهربت الأسرة الحاكمة أحفاد المستعصم بالله إلى حلب وانتقل قسم منهم إلى جيزان واليمن وهو مشهورون إلى اليوم بكنية آل عاصم . إمارة الجعليين: قامت في شمال السودان المعاصر وينتسبون مباشرة إلى العباس بن عبد المطلب مباشرة دون أن يكونوا من ذرية أحد الخلفاء العباسيين في القاهرة أو بغداد وبعد اندثار المماليك هرب قسم من العائلة المالكة إلى السودان . حيث أعلنوا استقلالهم عام 1588 على يد سعيد أبو دبوس وقد اتخذ الجعليون من مدينة شندي عاصمة لهم وتوالى على حكم الإمارة سبعة عشر أمير عباسي إلى أن قضى عليها والي مصر محمد علي باشا خلال فتحه السودان عام 1823 موحدًا بذلك وادي النيل وعمر حسن البشير رئيس جمهورية السودان منذ عام 1989 ويعود أصل عائلته لسلالة الجعليين التي تنتسب مباشرة إلى العباس بن عبد المطلب . مملكة بهاولبور : قامت في بلاد السند عام 1702 على يد الأمير محمد المبارك خان الأول ويعود استقرار قبائل عباسية في الهند إلى بداية العهد العباسي وهم من المنتسبين مباشرة للعباس بن عبد المطلب دون المرور بالخلفاء تميزت مملكتهم بالرفاه الاقتصادي والاهتمام بالعلوم والآداب خصوصًا العلوم الشرعية . ولم يتم القضاء بواسطة الحرب على هذه الإمارة بل إنه وفي أعقاب استقلال الهند عام 1947 وتقسيمها إلى دولتين هما الهند وباكستان اختار آخر الأمراء العباسيين في بهاولبور الانضمام طوعًا إلى باكستان في 5 أكتوبر 1947. إمارة بستك العباسية : تأسست عام 1673 على يد الأمير عبد القادر بن الحسن أحد أحفاد هارون الرشيد وشملت منطقة الأهواز وضفاف الخليج العربي على الجانب الإيراني من الخليج وتوالى على حكمها أحد عشر أميرًا حتى قضى عليها شاه إيران محمد رضا بهلوي عام 1967 فكانت بذلك آخر دولة حكمت من قبل السلالة العباسية وقد انتقلت الأسرة الحاكمة إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين . ربما المعلومات سابقة الذكر لا يعلمها الكثيرون بسبب التعتيم الإعلامى وأيضاً التعليمى الذى أصاب مناهجنا التعليمية فى وطننا العربى منذ عقود والتى إعتمدت على السطحية والتلقين الأعمى . وهنا نأتى لأهم سؤال ربما يتبادر لذهن أى ثورى محب لوطنه : ما هو سر قوة تلك الدولة وأقصد دولة بنى العباس ؟ . ربما البعض سيجد أن السؤال سهل وإجابته أسهل وسنكتشف بأن أمامنا آلاف الإجابات لنفس السؤال ولكن لن يكتشف الإجابة الصحيحة إلا القلائل .. والإجابة ببساطة أن البناء القوى والشامخ سره فى أساسه فأى دولة أو مرحلة تم تأسيسها على أسس سليمة وقوية ستستمر قوية وشامخة إلى ما شاء الله .. وكما بدأت مقالى بسقوط الدولة سأبدأ الحديث عن بداية نشأتها وعن الأسلوب الثورى والتى تعامل به العباسيون ضد خصومهم ونجحوا فى تأسيس دولة قوية إستمرت لقرون بقوتها وشموخها . فقد قامت سياسة ثورة العباسيين تجاه بني أمية بعد القضاء على نظام حكمهم الدكتاتورى على محورين أساسيين : أولهما : القضاء على كل نفوذ سياسي لهم بين أنصارهم وفلولهم حتى لا يفكروا في إستعادة سلطانهم أو إحياء حكمهم ولا يفكر هؤلاء الفلول في البحث عن حاكم أموي بديل يلتفون حوله ويجلسونه على كرسي الحكم . وثانيهما : الثأر من بنى أمية لما فعلوه ببني هاشم عامة والعلويين خاصة من قتل وسجن وتشريد . وكلا الأساسين يقتضى مطاردة الأمويين أينما كانوا لإستئصال شأفتهم وإجتثاث فروعهم إن كان إلى ذلك من سبيل . ومن هنا قاد العباسيون فور نجاح ثورتهم حملات تطهير شاملة ضد بني أمية وفيما يلي بعض الأمثلة لحملات التطهير والتي حفلت بأحداثها وتفاصيلها مصادر التاريخ الإسلامي التي كتبت في ظل الدولة العباسية نفسها : فإستهل العباسيون مسلسل التطهير بقتل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية حيث تتبعه عبد الله بن علي العباسي حتى لجأ مروان إلى مصر فلحقته بها جيوش العباسيين عند قرية بوصير فقتل مروان وأرسلت رأسه إلى عبد الله بن علي بالشام فأرسلها عبد الله بدوره إلى أبي العباس السفاح الذي خر ساجداً لله ثم رفع رأسه قائلاً : الحمد لله الذي أظهرني عليك وأظفرني بك ولم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك أعداء الدين ثم تمثل قائلاً : لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ولا دماؤهم للغيظ ترويني . ومن ذلك أيضاً ما فعله أبو العباس السفاح بسليمان بن هشام بن عبد الملك الذي كان في مجلسه مطمئناً إلى الأمان الذي بذله الخليفة له وكان أبو العباس السفاح قد إتفق مع أحد مواليه أن يدخل عليه وينشده : لا يغرنك ما ترى من رجال إن تحت الضلوع داءً دويًّا فضع السيف وارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرها أمويًّا وهذا ما حدث وهنا تحركت ثورة أبي العباس السفاح ووجد مبرر ليتنصل مما أعطاه لسليمان من عهود الأمان وأمر بقتله . وأيضاً تعقب عبد الله بن علي العباسي أبناء البيت الأموي بالشام رجالاً وأطفالاً ونساءً فقتلهم أينما كانوا ولم يفلت من القتل إلا نفر قليل هربوا إلى الأندلس وإلا بعض الأطفال الرضع . وقد أمر عبد الله بن علي بقطع يدي أبان بن معاوية بن هشام ورجليه ثم طيف به في كور الشام ينادى على رأسه : هذا أبان بن معاوية فارس بني أمية .. حتى مات وذبح العباسيون عبدة بنت هشام بن عبد الملك ذبحاً . وفي البصرة قتل سليمان بن علي العباسي جماعة من بني أمية وأمر بهم فسحلوا كما قتل يحيى بن محمد العباسي أعداداً كبيراً من أهل الموصل . وبعد أن تفرق بنو أمية في الآفاق للنجاة بأرواحهم من بطش العباسيين بهم تظاهر العباسيون بالأسف والندم على ما اقترفوه من آثام في حق بني أمية وبسطوا أماناً لأمراء بني أمية حتى يجمعوهم ثم يضربوا رقابهم جميعاً فيقضوا عليهم بذلك دفعة واحدة فخدع الأمويون بأمان العباسيين الكاذب فتوجه منهم نحو ثمانين رجلاً إلى معسكر صالح بن علي العباسي بالقرب من نهر أبي فطرس بفلسطين بعد أن ملوا حياة التشرد وأضناهم الفرار من مطاردة العباسيين لهم . فلما إكتمل بنو أمية أمر عبد الله بن علي بهم فقتلوا وكانوا فيمن قتل : محمد بن عبد الملك بن مروان والغمد بن يزيد بن عبد الملك وعبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وسعيد بن عبد الملك وغيرهم فلما فرغ منهم قال : بَنِي أميَّةَ قد أفنيْتُ جَمعَكُم فكيفَ ليِ مِنْكم بالأولِ الماضِي يُطَيِّبُ النفسَ أنَّ النارَ تجمعُكم عُوِّضْْتُم من لَظَاهَا شَرَّ مُعْتَاضِ مُنِّيتُم لا أقالَ اللهُ عَثْرَتَكُمْ بَليْثِ غَابٍ إلى الأعداءِ نهَّاضِ إنْ كانَ غيظي لفوتٍ مِنْكُم فلقَدْ مُنِّيتُ منكم بما رّبي به رَاضِ ومن حوادث الثورة العباسية ما رُوي عن عبد الله بن علي العباسي أن شبل بن عبد الله مولى بني هاشم دخل عليه وعنده نحو تسعين رجلاً من بني أمية على الطعام فقال شبل : أصبحَ الملكُ ثابتَ الأساسِ بالبهاليلِ من بني العَبَّاسِ طلبوا وترَ هاشم فشَفَوْها بعد مَيْلٍ من الزَّمَانِ ويَاسٍ لا تُقيلنّ عبدَ شمسٍ عِثَارا واقْطَعَنْ كلَّ رَقْلَةٍ وغِواسِ ذُلّها أظهرَ التوددَ مِنْهَا بِهَا مِنْكُم كحَرِّ المواسي ولقَدْ غَاظَنِي وغَاظَ سوائي قُرْبُهم من نَمَارقٍ وكَرَاسِي أنْزلُوها بحيثُ أنزلها اللهُ بدارِ الهَوانِ والإِتْعَاسِ واذكروا مصرعَ الحسينِ وزيداً وقتيلاً بجانِبِ المهراسِ والقتيلَ الذي بحَرَّان أضحى ثاوياً بين غُرْبةٍ وتَنَاسِ فأمر بهم عبد الله فضربوا بالعمد حتى قتلوا وبسط عليهم الأنطاع فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعاً ...!!!. ولم يكتف عبد الله بن علي العباسي بهذا بل أراد أن يمحو آثار أمواتهم فأمر بنبش قبور بني أمية في دمشق فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فلم يجدوا فيه إلا خيطاً مثل الهباء ونُبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا جمجمته وكان لا يوجد في القبر إلا العضو بعد العضو غير هشام بن عبد الملك فإنه وجد صحيحاً لم يبل منه إلا أرنبة أنفه فضربه عبد الله بن علي بالسياط وصلبه وحرقه وذرَّاه في الريح . وكذلك قتل داود بن علي العباسي من ظفر به منهم من بني أمية بمكة والمدينة ورُوي أنه لما أراد قتلهم قال له عبد الله بن الحسن بن الحسن : يا أخي إذا قتلت هؤلاء فمنْ تباهى بملكه؟ أما يكفيك أن يروك غادياً ورائحاً فيما يذلهم ويسوءهم؟ فلم يقبل منه وقتلهم . وقد واصل العباسيون بعد خليفتهم الأول أبي العباس السفاح سياستهم الثورية مع الأمويين حتى في عهد المأمون نفسه الذي أمر سنة (212ه) بلعن معاوية على منابر بغداد وأعد الكتب إلى الحواضر الإسلامية يأمر عماله فيها بذلك فأعظم الناس ذلك وأكبروه واضطربت العامة فأشير عليه بترك ذلك فأعرض عن ذلك . ومع ذلك لم ينتقد أفعال العباسين من رجال الدين إلا القلائل وكان نقد على إستحياء أما غالبيتهم فقد فاضلوا بين الحكم الأموى والحكم العباسى ورجحوا كفة العباسيين ومنهم من وصل لتكفير الأمويين مجاملة للعباسيين . فقال ابن حزم الأموي مولاهم في رسائله عن بني العباس (2\147 :- إلا أنهم لم يعلنوا بسب أحد من الصحابة رضوان الله عليهم بخلاف ما كان بنو أمية يستعملون من لعن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه ولعن بنيه الطاهرين من بني الزهراء وكلهم كان على هذا حاشا عُمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد رحمهما الله تعالى فإنهما لم يستجيزا ذلك . وقال ابن تيمية في منهاج السنة (8\170) : وأعظم ما نقمه الناس على بني أمية شيئان أحدهما تكلمهم في علي والثاني تأخير الصلاة عن وقتها . وقالوا : بل وصل الأمر بهم أحيانا إلى إخراجها عن وقتها وتقديم الخطبة على الصلاة في العيدين والتأذين لصلاة العيدين وأنهم كانوا يخطبون قعودا واستمروا على هذا حتى أماتوا السنن وظن الناس أن البدع هي السنن فلما جاء بنو العباس رضوان الله عليهم أحيوا هذه السنن التي أميتت وأوقفوا سب الصحابة ولعنهم . وأخيراً فأنا لا أدعو فى مقالى هذا إلى أية ثورات دموية ولكننى أنبه إلى شئ هام فات بعض الأبواق الإعلامية والتى تضلل الناس وتؤكد لهم بأن الثورة قد نجحت وهو أنه لا توجد ثورات فى التاريخ الإنسانى أجمع إلا وأزهقت فيه دماء الطغاء وأعوانهم وفلولهم وتم مسح ذكراهم من الوجود غير مأسوف عليهم . أما ما يحدث فى مصر وتونس منذ بداية إنتفاضتهما المباركة وحتى الآن فلا يمت للثورات بصلة !!! .