إذا كانت القيادة مسئولية وأمانة، فإن ممارسة النقد والتحليل أيضا مسئولية وأمانة وكلنا مسئولون أمام الله عز وجل بداية يجب أن نفرق بين النقد الذي يعني تمييز الجيد من الرديء، والنقض الذي يعني الهدم، فالأول مأخوذ من نقد الذهب والفضة أي تمييز الصحيح من الزائف منهما، والثاني وهو النقض فمعناه الهدم، يقال : مات فلان تحت الأنقاض، أي: تحت بقايا الهدم. علي أن النقد في اللغة له معنيان: أولهما : هو العيب والذم والقدح، ومنه قول أبي الدرداء (رضي الله عنه) : إن نقدت الناس نقدوك وإن تركتهم تركوك، أي إن عبتهم وقدحت فيهم عابوك وقدحوا فيك، فكلك عورات وللناس ألسن. أما المعني الثاني وهو النقد المنصف فيعني التمييز بين الحسن والقبيح، علي أنه قد يكون مدحا واستحسانا، وقد يكون ذما واستهجانا، وقد يجمع الناقد بين بيان المحاسن والمثالب. والنقد قد يكون ذاتيا أو انطباعيا، وقد يكون علميًا أو منهجيًا أو موضوعيًا، فالأول قائم علي مجرد الانطباع الأولي، كأن تقرأ مقالا أو تسمع خطبة أو كلمة أو حديثا أو تري لوحة فنان فتعجب بها دون أن تقف علي تفاصيل الفن أو وصف أسباب الجودة، وقد لا تعجب مع عدم الوقوف علي التفاصيل الفنية التي هبطت بالفن عن مستوي الجودة. أما النقد العلمي والمنهجي والموضوعي فهو القائم والمبني علي أسس علمية وموضوعية وفنية وهذا النقد يحتاج إلي ثلاثة مقومات أساسية : أولها : الأدوات المتصلة بالصناعة أو الفن، فناقد العمل الأدبي يحتاج إلي الإلمام بعلوم اللغة من النحو والصرف والعروض وعلوم البلاغة والنقد وأدب الكُتَّاب والإلمام بشيء من الثقافة العامة في سائر العلوم الإنسانية والاجتماعية والنفسية وفنون التاريخ والحضارة والعمران وما إلي ذلك، والناقد الرياضي أو الاقتصادي أو السياسي أو الفني أو التشكيلي لابد أن يلم إلماما كبيرًا بأصول الصنعة التي يتعرض لها، وإلا كان نقده سطحيًا يحتاج إلي من ينقده ويفنده وربما يتعرض له من يبين قصوره وقد يسفهه. الأمر الثاني الذي يجب أن يلم به الناقد هو الخبرة والدربة والملكة، ألا تري أن قد تسمع إلي قارئي قرآن أو خطيبين مجيدين متميزين غاية التميز، أو تقرأ لكاتبين من كبار الكُتَّاب مقالين عظيمين مستجمعين لكل أدوات الصناعة، أو تتعرض لتحليل عملية فنية في غاية الدقة والإبداع، غير أنك قد تميز بينهما بشئ يدرك ولا يوصف، كما قال الآمدي : ألا تري أنك قد تجد فرسين نجيبين بينهما من الاشتراك في علامات العتق والنجابة والقوة والعراقة ما يصعب علي اللبيب التفريق فيه بينهما، غيرأن أهل الخبرة بالخيول يقدمون أحدهما علي الآخر، وكذلك في تقييم لوحات الفنانين وأعمال المبدعين ومواصفات الإبداع والجمال والمعمار وسائر شئون الحياة والصناعات، مما يجعل من الخبرة والممارسة شيئا آخر إلي جانب امتلاك أدوات الصناعة. أما أن يقتحم مجال النقد من لا يمتلك لا الخبرة ولا الحاسة ولا أدوات الصناعة والفن أو مؤهلات النقد، فتلك الطامة الكبري التي تؤخر ولا تقدم، وتفسد ولا تصلح، وتسيء للناقد قبل المنقود. الأمر الثالث والأهم هو : الإخلاص والتجرد والبعد عن الأهواء وتصفية الحسابات، فإن الوقوع في آفات الهوي والميل وعدم الإنصاف طامة كبري يجب الترفع عنها، وذلك أن بعض النفوس المريضة لا تعرف سوي الهدم طريقا، علي حد ما قرره الإمام علي بن عبد العزيز الجرجاني في مقدمة كتابه « الوساطة بين المتنبي وخصومه « حيث ذكر أن أهل النقص فريقان، فريق يعمل علي جبر نقيصته وستر عورته، وهذا أمر حسن لأنه قد شغل بأمر نفسه ويعمل علي إصلاح حاله وشأنه، أما الفريق الآخر من أهل النقص فقد قعد به عن الكمال عجزه أو اختياره، أي ضعفه أو كسله، فلم يجد شيئا أجبر لنقصه وأستر لعورته من انتقاص الأماجد وحسد الأفاضل، ظنًا أن ذلك قد يجرهم إلي مثل نقيصته أو ينزل بهم إلي مستوي درجته. وقد امتهن بعض الناس حتي في العصور المتقدمة المدح والهجاء صنعة يتكسبون بها، وإذا كان التكسب بالمديح والثناء أمرًا معروفا حتي لدي شعراء الجاهلية فيمن عرفوا بمدرسة الصنعة أو التكسب بالشعر كزهير بن أبي سلمي والنابغة الذبياني وغيرهما، فإن هناك من عُرف بالتكسب بالهجاء حتي في عصر صدر الإسلام كالحطيئة الذي كان يبتز الناس بهجائه وتعرضه لهم، حتي أن الخليفة عمر ( رضي الله عنه ) هدده تهديدًا شديدًا إن لم يكف عن أعراض الناس، فقال : إذن يموت عيالي يا أمير المؤمنين، فاشتري منه عمر أعراض الناس بأربعين ألف درهم علي ألا يتعرض لهجاء أحد، فكف الحطيئة عن هجاء الناس طوال خلافة عمر ثم عاد إليه بعد وفاته. وكل هذا لا يمكن أن يصنع حضارة حقيقية أو يقدم للمجتمع الكفاءات التي تستحق الثناء والتقدير الحقيقي، بل إن هذا النقد قد يسهم في الهدم، أما النقد الحقيقي المتجرد الموضوعي المبني علي أسس علمية وعلي الخبرة والدربة والممارسة وكثرة التحصيل وعلي الإنصاف، بأن تقول لمن أحسن: أحسنت، ولمن أساء - بالأدب - : أسأت وقصرت، وربما تضع يده علي وجه الخلل وعلي طرق الإصلاح، فهذا هو النقد الهادف الذي يبني ولا يهدم، وينصف ويشجع، وفي الوقت نفسه يبين ويحذر. فإذا كانت القيادة مسئولية وأمانة، فإن ممارسة النقد والتحليل أيضا مسئولية وأمانة، وكلنا مسئولون أمام الله (عز وجل)، كل عن الأمانة التي ولاه الله إياها،كما أننا مسئولون عن بناء وطننا، والعمل علي نهضته ورقيه من خلال سبل البناء والإصلاح لا الهدم والنقض، ولا النفعية أو حب الظهور، علي أن الغالبية العظمي صارت تميز الغث من السمين، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم : « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ « (الرعد : 17).