شريف منير يحتفي بزفاف ابنته "أسما".. ووجه رسالة مؤثرة لزوجها    عمرو دياب يستعد لطرح أغنيتين بتوقيع أيمن بهجت قمر    مها الصغير عن تصدرها التريند: «السوشيال ميديا سامَّة»    لماذا يجب تناول الخضروات والسلطة مع اللحوم في ثاني أيام عيد الأضحى؟ الصحة توضح    بعد خلافه مع ترامب.. إيلون ماسك يدعو إلى تأسيس حزب سياسي جديد    انقطاع كبير لخدمة الإنترنت في كوريا الشمالية    ترامب فاشل في المواد «الاقتصادية».. أهمل تحذيرات الاقتصاديين من سياسة التعريفات الجمركية    بعد اتصال إنزاجي به شخصيا، أوسيمين على أعتاب الهلال السعودي براتب استثنائي    سعر الدولار أمام الجنيه السبت 7-6-2025    12 شهيدًا في قصف إسرائيلي استهدف نازحين بغرب خان يونس    ترامب ردًا على هجوم إيلون ماسك: قد يكون بسبب تعاطيه المخدرات    نتيجة الشهادة الإعدادية 2025 بالجيزة .. رابط وخطوات الاستعلام لجميع الطلاب فور ظهورها    هوندا سيفيك تايب آر تُعلن نهاية مبيعاتها في أوروبا    «كذاب وبيشتغل الناس».. خالد الغندور يفتح النار على زيزو    «لعيبة تستحق تلبس تيشيرت الزمالك».. شيكابالا يزف خبرًا سارًا لجماهير الأبيض بشأن الصفقات الصيفية    محمد هانى: نعيش لحظات استثنائية.. والأهلي جاهز لكأس العالم للأندية (فيديو)    ارتفاع كبير في عيار 21 بالمصنعية.. أسعار الذهب والسبائك اليوم السبت 7 يونيو 2025 بالصاغة    ترامب يكلف بتوسيع إنتاج الطيران الأسرع من الصوت    "مش جايين نسرق".. تفاصيل اقتحام 3 أشخاص شقة سيدة بأكتوبر    رئيس الوزراء الهندي: نتطلع لتعميق التعاون مع وسط آسيا في التجارة والطاقة والأمن الغذائي    إيلون ماسك يخسر 35 مليار دولار من ثروته بعد خروجه من الحكومة الأمريكية    الهند: برلمانات بريكس يتفقون على التعاون على سياسة عدم التسامح إزاء الإرهاب    بعد تصدرها الترند بسبب انهيارها .. معلومات عن شيماء سعيد (تفاصيل)    ترامب: أوكرانيا منحت روسيا مبررا واضحا لقصفها بشدة    محمد عبده يشيد ب " هاني فرحات" ويصفه ب "المايسترو المثقف "    مباحثات مصرية كينية لتعزيز التعاون النقابي المشترك    نتيجة وملخص أهداف مباراة المغرب ضد تونس الودية    «الدبيكي»: نسعى لصياغة معايير عمل دولية جديدة لحماية العمال| خاص    الثلاثاء أم الأربعاء؟.. موعد أول يوم عمل بعد إجازة عيد الأضحى 2025 للموظفين والبنوك والمدارس    سفارة الهند تستعد لإحياء اليوم العالمي لليوجا في 7 محافظات    محاضرة عن المتاحف المصرية في أكاديمية مصر بروما: من بولاق إلى المتحف الكبير    منال سلامة ل"الفجر الفني": لهذا السبب قد أرفض بطولة.. ولا أفكر في الإخراج    دار الإفتاء تكشف آخر موعد لذبح الأضحية    «المشكلة في ريبيرو».. وليد صلاح الدين يكشف تخوفه قبل مواجهة إنتر ميامي    سوزوكي توقف إنتاج سيارتها «سويفت» بسبب قيود التصدير الصينية على المعادن النادرة    أجواء فرحة العيد في حديقة الحرية أول أيام عيد الأضحى| فيديو    وفاة سائق سيارة إسعاف أثناء عمله بمستشفى بني سويف التخصصي    الشناوي: المشاركة فى مونديال الأندية إنجاز كبير.. وحزين لرحيل معلول    المطران فراس دردر يعلن عن انطلاق راديو «مارن» في البصرة والخليج    زيزو: جيرارد تحدث معي للانضمام للاتفاق.. ومجلس الزمالك لم يقابل مفوض النادي    بمشاركة 2000 صغير.. ختام فعاليات اليوم العالمي للطفل بإيبارشية المنيا    تفاعل مع فيديو هروب عجل قفزًا في البحر: «رايح يقدم لجوء لأوروبا»    الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع في جلسة نهاية الأسبوع    الكنيسة الإنجيلية اللوثرية تُعرب عن قلقها إزاء تصاعد العنف في الأراضي المقدسة    أخبار × 24 ساعة.. المجازر الحكومية تستقبل أكثر من 9800 أضحية أول أيام العيد    صلى العيد ثم فارق الحياة.. تشييع جنازة صيدلي تعرض لأزمة قلبية مفاجئة في الشرقية    سالى شاهين: كان نفسى أكون مخرجة سينما مش مذيعة.. وجاسمين طه رفضت التمثيل    بسبب ماس كهربائي.. السيطرة على حريق نشب في كشك بكرداسة    «المنافق».. أول تعليق من الزمالك على تصريحات زيزو    البابا تواضروس يهاتف بابا الفاتيكان لتهنئته بالمسؤولية الجديدة    لأصحاب الأمراض المزمنة.. استشاري يوضح أفضل طريقة لتناول البروتين في العيد    أستاذ رقابة على اللحوم يحذر من أجزاء في الذبيحة ممنوع تناولها    احذر من الإسراع في تخزين اللحوم النيئة داخل الثلاجة: أسلوب يهدد صحتك ب 5 أمراض    حدث في منتصف ليلًا| أسعار تذاكر الأتوبيس الترددي على الدائري.. وموجة حارة بكافة الأنحاء    تفشي الحصبة ينحسر في أميركا.. وميشيغان وبنسلفانيا خاليتان رسميًا من المرض    وزير الأوقاف يشهد صلاة الجمعة بمسجد سيدنا الإمام الحسين بالقاهرة    حكم من فاتته صلاة عيد الأضحى.. دار الإفتاء توضح التفاصيل    سنن وآداب صلاة عيد الأضحى المبارك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
رؤية خاصة جدا


جمال الغيطانى
«أحمد الله أنني في هذه المرحلة المتقدمة من العمر أعيش هذه الحفاوة التي تتجاوز أي تقدير عرفته في مساري..»
بدأت كتابة يوميات الأخبار في عام خمسة وثمانين من القرن الماضي، كان ذلك بمبادرة من النبيل الرائع سعيد سنبل، وهذه اليوميات أعتبرها سجلا دقيقا لحياتي الداخلية عبر ثلاثة عقود كاملة، في البداية كنت أكتب عن محمد وماجدة، بل إنني أوردت حوارات كاملة جرت معهما عندما كانا في طور الطفولة، مع التقدم في الزمن أصبح لكل منهما حياته الخاصة، وأدركت أنني يجب أن أحترم ما يخصهما، لم أعد أشير إليهما الا فيما ندر، السبت الماضي أتممت عامي السبعين، وأهم ما جري فيه بعد صدور روايتي «حكايات هائمة» عن دار نهضة مصر، وبدء نشر المرحلة الثانية منها «حكايات قاهرية» في أخبار اليوم كل يوم سبت، وصدور المشروع الروائي الطويل المستمر «دفاتر التدوين» عن الهيئة العامة للكتاب في مجلدين، كذلك مجموعات القصص القصيرة بدءا من أوراق شاب عانس منذ الف عام، ايضا عدد اخبار الادب الذي كان مفاجأة كاملة لي أعتبره وثيقة ليس بالنسبة لي وانما بالنسبة للصحافة الثقافية، هكذا يكون عيد ميلاد أديب فرصة لتقييم تجربته ومساره وإضاءته ونقده ايضا، ذكرني عدد أخبار الادب المخصص لما قدمته وليس لشخصي الذي أعده الزملاء الاعزاء وفي مقدمتهم طارق الطاهر ومحمد شعير بالعدد الذي أصدره الاستاذ رجاء النقاش من مجلة الهلال عن نجيب محفوظ عام 1970، أصبح مرجعا رئيسيا لأي مهتم بنجيب محفوظ حتي الآن، الحدث الآخر الاحتفال المهيب الدافئ الذي دعا إليه الاستاذ ياسر رزق وصندوق التنمية الثقافية ممثلا في المهندس محمد ابوسعدة، برعاية وزير الثقافة، وشرفني الصديق الكبير المهندس ابراهيم محلب بالحضور، سعي إلي بيت السحيمي مشيا علي قدميه من باب الفتوح حتي الدرب الأصفر «حوالي نصف كليو متر»، اصدقاء أعزاء توافدوا كل منهم يمثل معني في رحلتي عبر الحياة، تذكرت بالحنين من غابوا وأفتقدهم جدا، محمد البساطي، ابراهيم اصلان، ابراهيم منصور، الابنودي، كل منهم كان بالنسبة لي ملاذا، الغريب أن الصديق ابراهيم داوود حدثني في اليوم التالي عن افتقاد هؤلاء بحنوهم وصدقهم وأصالة مواهبهم، افتقدت نجيب محفوظ وامين الخولي ومحمد عودة والسيدة شفيقة جبر التي أدين لها، كثيرون مروا بذاكرتي غير أن الغياب أحيانا يكون أقوي من الحضور، المفاجأة في اخبار الادب مقالان، الاول كتبته ماجدة ابنتي، والآخر محمد ابني، حانت اللحظة التي يكتبان فيها عني، أري نفسي من خلالهما، ولكم تأثرت أما وثيقة أخبار اليوم التي وقعها زملاء العمر والرحلة فحدث فريد لعله الاول من نوعه، وللوثيقة حديث خاص فمازلت أحاول أن أستوعب، أحمد الله أنني عشت هذه الحفاوة في نقطة متقدمة من سعيي، شكرا لأخبار اليوم ولوزارة الثقافة ولكل من عرفني عبر النص وليس من خلال الشخص، في اليوميات أنقل عن أخبار الأدب ما كتبه محمد وماكتبته ماجي.
جيمي
شعور بالرهبة والارتباك انتابني عندما قررت ان اضع بين يدي القارئ هذه الكلمات المتواضعة بمناسبة اقتراب ابي من اكمال عقده السابع من العمر، فما ربطني بوالدي دائما ما كنت انظر اليه باعتباره غير مألوف ويخرج بعيدا عن نطاق علاقة الابوة ليستقر بثبات في خانة الصداقة الحقيقية، فلازلت اذكر كيف تفتح وعيي علي ما يرويه لي من خلاصة تجربته الحياتية المثيرة خاصة في سنوات عمله كمراسل حربي، فكنت دائما ما انتظر سماع انتصارات ابراهيم الرفاعي وصمود ابراهيم عبد التواب وقيادة عبد المنعم خليل وخبرة عبد المنعم واصل وجسارة زرد وذكاء فؤاد حسين ودقة ابوغزالة، مما خلق رابطا عضويا بين تكويني وبين الجيش المصري صاحبني إلي اليوم، وربط بيني وبين العديدين من رموزه وأبنائه. ومن الغريب ان والدي المغرق في عالم الفنون والآداب ، انطلق متعمقا نحو سبر اغوار علم الفلك المعاصر بمستجداته والغازه التي تطرح اسئلة وجودية فلسفية في جوهرها.
لا اذكر ابدا اني تحرجت يوما من مفاتحة والدي عن امر الم بي او استغرقني في التفكير ، فعلي العكس كثيرا ما كان هو الاكثر جرأة مني علي ممارسة الحياة بروح المستكشف ، علي النقيض من ميلي الغريزي إلي الانضباط وحياة الضبط والربط، فكان هو ولا يزال القوة الدافعة نحو الحركة والاستكشاف للعالم بثقافاته وفنونه، ولعل ما ادين به دائما لوالدي ذلك الدفق المستمر من العلم والمعرفة علي مدار عقود عمري التي قاربت علي الأربعة، فيسرت لي ، رغم دراستي العلمية، التشرف بالالتحاق بالسلك الدبلوماسي المصري.
ولعل ما يهمني اوصله إلي القاريء ان جمال الغيطاني الذي احكي عنه في البعد الخاص ، هو ذلك الغيطاني الذي يطل علي القاريء في البعد العام، تطابق احيانا ما استفز وعيي المحدود في ايام نشأتي الأولي، حالة صعيدية من التمسك بالقيم والمبادئ التي طالما آمن ولا زال يؤمن بها ، في القلب منها تقديس قيمة الالتزام بالعمل مهما كان بسيطا أو هاما فالإتقان والالتزام ركن أصيل من تكوين جمال الغيطاني، والانصهار روحا وجسدا في الشأن العام الأمر الذي يميز جيله في غالبيته ..جيل الستينات.
لا زلت اذكر كيف كنت اشعر في مقتبل عمري بالغيرة من الأدب الذي يستحوذ علي عالم ابي بشكل مطلق، الأمر الذي دفع بي صبيا صغيرا لانتهاج مسار بعيدا كل البعد عن كل ما هو ادبي ، مستغلا في ذلك دأبي العلمي وحسن استيعابي لعلوم الرياضيات فدرست الهندسة بعد تعذر التحاقي بالكلية البحرية العسكرية لعيب في نظري ، بل وحرصت علي تجنب الولوج لعالم الصوفية علي سبيل المثال كنوع من الاعتراض، الا أن الغريب ان ما صار علي مدار السنوات اللاحقة هو رجوعي باختياري للعالم الذي احبه والدي دون أي تدخل منه سواء من قريب او من بعيد، فبدأت في سؤاله عن الصوفية بعد ان وجدت في فلسفتها سماحة روحية تسع اختلافات الخلق، فبدأت نظرتي تتغير لعالم والدي الذي جذبني هذه المرة ، ومنها تعلقت بالقاهرة القديمة التي حفرت في وجدانه روحها ، وتعمق جذري بأصلي في صعيد مصر بلدنا جهينة سوهاج ، التي سننتهي اليها يوما ما. ومع مرور الوقت، بدا يتكشف لي مدي معاناة جمال الغيطاني نتيجة ما يدور في داخله من تساؤلات كونية ، و مشاغل إنسانية ، يقع صراع الإنسان مع الوقت والوجود في القلب منها ،
مما لا شك فيه أن «جيمي» وهو الاسم الذي شببت عليه مناديا ابي مما كان يثير الكثير من الدهشة لدي البعض، يلخص طبيعة العلاقة التي ربطتني بجمال الغيطاني الأب، هي علاقة صداقة وأستاذية بشكل غير نمطي او مألوف يتجاوز بكثير الابوة التقليدية ورابطة البنوة.
إن قيمة العمل عند جمال الغيطاني مقدسة ، وهو أسير الاعتياد، يشكل له التغير مسألة غير مريحة في مجملها ، ولعل السبب في ذلك طبيعة الحياة المزدوجة التي فرضت نفسها عليه وجعلته في حالة صراع ابدي مع فكرة الزمن، فهو في الصباح يسعي إلي رزقه صحفيا، وفي المساء مبدع إنساني، فآماله ورغبته في العطاء الادبي تتجاوز بمراحل بعيدة محدودية الوقت المتاح و القدرة البشرية علي التحمل، ولعل مشهد اصراره علي اكمال محاضرته في نادي الجلاء علي الرغم من بوادر الازمة القلبية التي اصابته ، أبلغ تعبير عن قيمة الالتزام والعمل لديه.
وعلي العكس من المعتاد مع الشباب، أجدني دائما ما أتهرب من أبي الذي يلح في إعطائي ما تيسر له من نقود، فهو زاهد فيها، كلما تحصل علي أي منها يطاردني كي يمنحني ما تيسر ، وهو أمر جعلني دائما أتعجب لهذا الرجل الزاهد زهد الرهبان في متع الحياة ولا يري أي متعة فيها إلا في القراءة والموسيقي والأدب. ومما لا شك فيه لدي انه لو لم تجمعه الأقدار بوالدتي لما تيسر له الزواج، فهما مكملان لبعضهما في شكل يدعو للايمان بالأقدار، فعلي الرغم من تميزها الصحفي المهني والذي كان من الممكن ان يثير غيرة أي رجل تقليدي، أجده داعما بكل قوة لوالدتي مهنيا ومعنويا بشكل يثير الإعجاب.
وبدون شك فاني مدين بتكويني لأبي دينا عظيما، فقد عشت معه بوجداني طفلا ذكريات حرب الاستنزاف مع رفاق السلاح ورموز العسكرية المصرية، فحفرت في نفسي زياراتي لسيادة الفريق فوزي و أبوة سيادة الفريق عبد المنعم خليل الروحية علامات شكلت وستظل هي ثوابت حياتي، فلا زلت استرجع كيف امضي الوالد سنوات في نزاع قضائي مع احد المؤرخين الراحلين ، دفاعا عن حرب الاستنزاف، فعندما تسأل جمال الغيطاني ما هو المشهد الأعظم في حياتك يجيب دون تردد مشهد ارتفاع العلم المصري علي خط بارليف صباح الأحد 7 اكتوبر 1973.
لعلني اشكر الزمن علي ما أتاحه لي بمروره من فرصة، انقل فيها ما اشعر به من دين تجاه أبي وهو يقترب من عامه السبعين، فخورا بإبداعه وثقافته وسيرته وطهارة يده وصداقته داعيا له بدوام الابداع والصحة والسداد.
كل سنة وحضرتك طيب يا جيمي .
محمد الغيطاني
فَص البرتقالة
انتهينا منذ قليل من الغداء... موعد الغداء هو تمام الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر -الغداء هو وقت التجمع لنا، والذي يكون عقب عودة جيمي من العمل. غالباً ما تدور احاديث الغداء حول مجريات البلد وهي نقاشات غالبا، ايضا، ماتنتهي إلي عدم اتفاق أي طرف علي رؤية الآخر للقضية موضع النقاش- وهذا يثير سعادة وفخر الأب والأم فها هم: الأبناء وقد بدأوا يستخدمون اجنحتهم (الفكرية) للتحليق بعيداً عن محيط سماء الأب والأم. بالنسبة لجيمي ولماجدة الكبيرة - حيث انه انا ماجدة الصغيرة- هذا هو قمة الانتصار: ان يسير الأبناء علي خطي نفسهما وليس تبعاً لاداء والديهما.
المهم، اعود إلي لحظة ما بعد الغداء حيث يذهب الجميع إلي قيلولته -أو الإغماءة وهو الإسم الحركي لها في بيتنا ويصف بدقة حالة كل منا عقب تناول طعام أمي الشهي ذي الرائحة المحبة- رائحة حب الطاهي لآكلي طعامه، تلك الرائحة التي تمتزج برائحة كُتب بيتنا، فإذا كان للأزمنة رائحة وللأماكن ايضاً فهذا المزيج من الروائح لن تجده إلا في هذا البيت.. في لحظة القيلولة الكل في امان هي لحظة التقاط النفس بين ما كان وما سيكون في اليوم.. لاشيء يهم فالكل في البيت هنا آمن، ممتليء، ونائم..
«إمسك ياحبوب...» يصلني صوته بنبرته المقبلة المرحة وانا لم أزل بين الغفوة واليقظة. إذن فقد استيقظ جيمي من قيلولته وسرعان ما سيبدأ البيت في استعادة نشاطه.
اعلم ما يريده جيمي حتي قبل ان انظر اليه بينما انا ممددة علي اريكتي الصغيرة: «ياجميل ايدي وجعتني اتفضل ياحبوب» انظر إليه مبتسمة: «ربنا يخليك ليا ياجيمي انا هقوم اجيب كمان شوية..».. لايتكلم ولكن يظل ممداً يديه بفص برتقالة من برتقالته: برتقالة ما بعد القيلولة.
«اصل دي بالذات حلوة اوي»:.. آخذها أخيرا بينما يملس بيديه علي رأسي: «ماتنسيش كوباية الماية وقعدتنا قبل ماتنامي.. ربنا ما يقطعلنا عادة ياحبوبة. يقولها جيمي . بينما اراه بجلبابه الصوف وعباءته «المغربية» السوداء يتجه إلي الناحية الأخري من المنزل: إلي المكتبة. إذن انها السابعة، فجيمي يبدأ «قعدة المكتبة» في السابعة بالتمام.. لحظات واسمع صدي موسيقي المكتبة تصلني هنا.. اليوم «التيمة» مغربي. فأنا خبيرة الآن في تمييز التواشيح المغربية والموسيقي الصيني وطبعاً، التركي، موسيقاه المفضلة، وإن بدأت ايضاً موسيقي الجاز والبلوز تحديداً في الاستحواذ علي اهتمامه . جيمي لايكتب إلا علي انغام الموسيقي.
يظل جيمي يكتب ويقرأ حتي الواحدة صباحاً.. ساعات عمل جيمي بعد القيلولة مقدسة.. لاينقطع عنها ابداً.. امر علي المكتبة.. ها هو، واقلامه، الأربعة مرصوصة بعناية علي المكتب، فلكل قلم لون ودور، ها هو يملأ «الورق الفلوسكاب» بخطه الصغير المُنمنم.. خط جيمي كالرسم، كالنحت.. لم ارثه عنه للأسف.. هو يجلس علي مكتبه بدأب الطالب المجتهد بلا سأم أو ملل.. حتي اقسي انواع المرض واكثرها فتكاً لم تغير نظامه فكان الجلوس علي فراش المستشفي للعمل والحفاظ علي النظام، ضارباً بأوامر الأطباء ورجائنا له بالراحة عرض الحائط.
بعد انتهاء ساعات الكتابة يدخل غرفة النوم ليجدني قد وضعت كوب الماء بجانب الفراش وجلست منتظراه. يمدد جسده علي الفراش ثم يشبك يديه ذات الصوابع السمراء الرشيقة وينظر لي: «هاه ياجميل ازاي كان يومك النهاردة؟».. ايا ما كان يشغلني كنت احكيه لجيمي..ايا ما كان.
تلك هي ملامح «يومياتي» مع جيمي..لم تتغير ابداً حتي جاء ميعاد مغادرتي لبيت «العز» عام 2006 ثم للدراسة والزواج عام 2008..
منذ اعوامي المبكرة وقد بات واضحاً انني مشروع استنساخ جيمي في العديد من الطباع. فنحن ابناء البرج الواحد، برج الثور، اصحاب الطابع الواحد: احنا صعايدة لاننسي الثأر ابداً ممن مس بنا ضرر إلا من نحبه: فإذا احببنا اخلصنا واغدقنا وسامحنا بلاحدود .
وهذا هو ابي.. فمهما ابدي من غضب فهو في أغلب الحال مسامح حتي قبل أن تنتهي عاصفة «جنونه الغيطانية» كما يصفها هو.
لايأخذ الأمر أكثر من كلمة حلوة لتصفية الاجواء ثم يكون الصفح. اعرف جيمي ودواخله كأنني انظر لنفسي في المرآة..
فما يراه البعض عنفا، وتهورا أو استعداداً وسعياً وراء الخسارة اراه انا ثمناً بسيطاً مقابل الإتساق مع الذات والدفاع كما هو فعلاً يؤمن به.
فكثيراً، كثيراً ماظلم أبي في العمل العام وكنت اعاني من ألم تعجز الكلمات عن وصفه عند رؤيتي لأقلام واشخاص تقذفه بأبشع واحط أنواع النقد (السباب؟) نتيجة لمواقفه العامة.. وكم كنت أتمني ان اشرح لكل قلم ان الموضوع ببساطة ان جيمي فقط يُدافع عما يؤمن به حتي وإن كان هو آخر من في خط الدفاع.. فالمهم هو الإتساق مع الذات لا أدري، مازلت لا اتقبل فكرة ان العمل العام له ثمن وهذا جزء طبيعي منه.
وليس هذا كل ثمن إخلاصه وتفانيه. فإخلاصه لعمله وكتابته بتلك الصورة المقدسة كان ثمنه غيرتي!!!!
نعم! غيرتي.. فما إن اجتزت مرحلة الطفولة حتي بدأت في الإبتعاد عن «المكتبة» بعد ان كانت مكاني المفضل في المنزل... كنت عنيدة.. جداً.. كنت غبية جداً.. فقد قررت التعبير عن حبي له بغضبي من كل ما كان يأخذ وقته.. فعند بلوغي المرحلة الثانوية ابتعدت عن القراءة تماماً..
ادركت غبائي عندما خطت قدمي خارج «بيت العز» لأول مرة بغرض السفر للدراسة.. فقط آنذاك شعرت بحجم خسارتي التي احاول ان اتداركها حتي هذه اللحظة.
لماذا ندرك اخطاءنا بعد ان تتباعد طُرقنا كيف كنت أرفض وانا في حضن المكتبة ان اقرأ كل ما كان ينصحني جيمي بقراءته لماذا لم اشاركه كل جولاته في مصر القديمة. تُري كيف كنت سأصبح إذا رافقته في خطواته ولم ادع العند يتملكني؟ حتماً كنت صرت أكثر عمقاً واتساقاً مع الذات.. كنت صرت شخصاً غير الشخص.
ولكن...
اياً ما كان يدور كانت ابداً لاتتغير عاداتنا :
«فص البرتقالة وكوب الماء».. وما كان يحدث بين الإثنين لايهم ابداً ... فهنا الود كله.. يلخصان كل شيء.. ففي الحقيقة احاديثي مع جيمي لم تنقطع ابداً حتي في عز ايام «قلة عقلي» هذه التي تحملها ابي بحب وصبر لا أعتقد انني قد أملكه مع ابني وقد صرت أماً..
ما بين البرتقالة وكوب الماء لايهم لأن ما هو ظاهر في علاقتي بجيمي هو مجرد قشور لما هو مسكوت عنه.. فأحاديثي معه تلك هي احاديث صامتة اجريها بداخلي كل يوم بالساعات... هي صامتة لكنني اعلم جيداً انه يسمعني... الآن وقد صرت اماً اتعجب كيف كان الفهم الخاطيء من جانبي؟ كيف يوماً فهمت مثابرته وإصراره علي ادخالي عالمه بهذا الشكل؟.
كيف لم يكفني غمر الحب والحنان والعطاء بلا حدود، حتي آخر قطرة ممكنة؟، كيف لم أع انذاك ان شعوري بالقوة والثقة في قدرتي علي تحدي هذا العالم هي فقط نابعة من وجود جيمي في «ضهري» حتي آخر نفس مهما كلفه الأمر..
الآن وقد صرت أماً استوعب اسئلته الصغيرة لي وقد كانت تبدو عامة وموجزة ولكن الآن اعلم علم اليقين انها كانت تعبر عن قلقه العميق ولهفته في رؤيتي سعيدة.. في رغبته التأكد انني قد وجدت طريقي..
كثيرا ما أشعر انني خذلته -كان من الممكن أن آخذ منه الكثير والكثير ولكن لم أفعل..
ولكن لم يتأخر الوقت ! فإذا كان جيمي يشعر بأنه في حالة صراع مع الزمن ليخرج كل ما بداخله من ابداع، وهو الكثير، الكثير جداً، فانا أسابق الزمن واصارع ما فات لأستعيد منه كل ماتركته، انا اتحدي المستقبل لكي اري في عين جيمي وماجدة الكبيرة نظرة فخر بما انجزته واطمئنان انني ممسكة بطريقي جيدا، طريق الدكتوراة ذي آلاف الأميال وسيحدث.. سأكون الأم والباحثة التي تستحق ان تكون ابنته.
وحياة دماغنا الصعيدي ياجيمي هارفع راسك.. دائماً.. كل سنة وانت صاحبي، في ضهري، ودائما تقرأني بدون الحاجة لكلامي..
ماجدة (أمك الصغيرة) نيويورك
مايو 2015
.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.