إن تحقيق العدالة الاجتماعية في الوقت الذي يتحتم فيه أن يكون هناك التزام سياسي للارتفاع بمعدلات النمو الاقتصادي، يشكِّل عدة تحديات صعبة للحكومة، يتطلب التصدي لها مراجعة شاملة للسياسات الحالية وإعادة ترتيب الأولويات والأخذ بمفاهيم الإنفاق الاجتماعي وهي من المفاهيم الحديثة ولها معايير ومؤشرات قابلة لقياس مدي ما يتم تحقيقه فعلاً علي أرض الواقع من إنفاق نحو تحقيق أهداف سياسات العدالة الاجتماعية. فارتفاع مؤشر النمو الاقتصادي لا يعتبر هدفاً في حد ذاته ولن يترجم تلقائياً إلي رخاء اجتماعي إلا إذا تمت إدارته بما يؤدي إلي توزيع الدخل القومي بين أبناء الوطن توزيعاً عادلاً، وإلي تقليل التفاوتات الموجودة حالياً بين فئات الشعب المختلفة لما لها من تراكمات تؤثر بدرجة كبيرة علي التنمية بصفة عامة، فما زال هناك من لا يستطيعون القراءة والكتابة ومن لا يتلقون رعاية صحية مناسبة ومن لا يجدون مياه شرب نظيفة ولا مرافق النظافة الصحية الواجبة. كما تحصل الفئات مرتفعة الدخل علي الكثير من منافع الخدمات الاجتماعية التي توفرها الدولة من مستويات تعليمية ورعاية صحية تفوق كثيراً مستويات الفقراء ومحدودي الدخل. كما أن هناك درجة من التفاوتات بين الوحدات الإدارية المكوِّنة للدولة نتيجة لعدم التوازن في توفير الفرص الاقتصادية والخدمات الاجتماعية مما كانت له آثار ظهرت في قدرة بعض المحافظات علي تحقيق معدل نمو مرتفع بينما لا تتمكن محافظات أخري من تحقيق نفس المعدلات بل بالعكس تفقد عناصر النمو فيها من عمالة ماهرة ورؤوس أموال لصالح المحافظات المتقدمة .. هذا هو التحدي الذي تواجهه الدولة ويقع علي عاتقها التصدي له لتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال منهج متطور، بحسب إستراتيجية للتنمية أكثر عدالة، تضع السياسات الاجتماعية في أعلي سلم أولوياتها مما يضمن توزيع الدخل القومي توزيعاً عادلاً، حتي لو كانت مستوياته متواضعة، فحسن توجيه وكفاءة الإنفاق الاجتماعي وعدالة التوزيع تعوِّض انخفاض نمو الدخل القومي الإجمالي. تقوم الدولة في الوقت الحالي بوضع خطة طموحة للتنمية تهدف إلي النهوض بالاقتصاد المصري وكلنا أمل أن يتم التعامل معها من منظور العمل الإنتاجي الجاد بمعني أن تكون تنمية قائمة علي خلق فرص عمل إنتاجية لتمكين أكبر عدد من المواطنين من الحصول علي مورد الرزق لتصبح تنمية يشارك المواطن في إحداثها، ويجني نصيبه من ثمارها بقدر ما يتحمَّل من أعباء هذه المشاركة، فيتحقق بذلك أحد أهم أساليب توزيع الدخل القومي وأكثرها عدالة. لن تكتمل هذه المنظومة إلا إذا كانت قوانا البشرية قادرة علي هذه المشاركة مما يستدعي تعزيز جهود الاستثمار في رأس المال البشري بالتركيز علي تكوين وبناء القدرات البشرية من خلال التعليم والتدريب وتأهيل الشباب بما يتناسب والتخصصات المطلوبة لسوق العمل في شكله الحديث وتقديم المهن الفنية التي يرغب عنها الكثير من الشباب بشكل متطور يضعها في مكان لا يقل عن باقي المهن. لمزيد من تكامل السياسات ذات الصلة بالنهوض بالمستوي الاقتصادي، علي الدولة أن تأخذ بأساليب الإقراض المتناهي في الصغر لتنشيط مفاهيم المشروعات الصغيرة ووضع برامج تتيح التمويل لهذه المشروعات بأساليب غير نمطية تتسم بالمرونة في السداد والانضباط في نفس الوقت، وذلك لضم الشباب من ذوي رؤوس الأموال الصغيرة والمحدودة إلي القوي المنتجة. فتنمية المشروعات الصغيرة هي مدخل واعد للتنمية الاقتصادية بصفة عامة وأسلوب ناجح لتوزيع الدخل والتقليل من إحدي مشاكل المجتمع الكبري وهي مشكلة البطالة. لتحقيق أهداف سياسات العدالة الاجتماعية هناك عدة أبعاد أخري يجب التعامل معها، أولها ضرورة تطوير نظم التأمينات علي اختلافها سواء كانت اجتماعية أو صحية أو تجارية. إن توفير بدائل تأمينية مختلفة تكون بمثابة مظلة تأمينية حقيقية تمتد لتشمل الجماهير العريضة من الشعب بحيث تضم إلي الفئات المستفيدة منها في الوقت الحالي العاملين في القطاع غير المنظم مثل العمالة الموسمية واليومية والباعة الجائلين .. الخ، أي كل القوي المنتجة التي تشارك في بناء الاقتصاد الوطني. كما يستدعي الأمر أيضاً تطوير واستحداث نظم اختيار للمعاشات والأخذ بنظام تعدد المعاش الذي كان قد طرحه البنك الدولي منذ فترة لحماية شريحة كبار السن، وهي فئة تتزايد نسبتها باستمرار في التعداد السكاني ليس في مصر وحدها بل علي مستوي العالم. من أبعاد سياسات العدالة الاجتماعية التي يجب تناولها أيضاً هي توسيع شبكات الضمان الاجتماعي وإعادة النظر في شروط وبنود نظم الضمان المختلفة الموجودة حالياً حتي تتناسب والظروف التي يمر بها المجتمع، فهي الوسيلة والمنظومة التي من خلالها يتحقق مبدأ التكافل الإنساني الذي نؤمن به جميعاً. وهكذا لتحقيق العدالة الاجتماعية التي ننادي ونتمسك بها يتحتم تعظيم كفاءة وفعالية الإنفاق العام وتفعيل كل الآليات المتاحة لترسيخ مفاهيمها التي تتمثل في إزالة جميع أشكال التفاوتات المكانية بين أقاليم الدولة والتفاوتات بين أبناء الوطن بحيث يتمكن كل فرد من الحصول علي حقوقه الإنسانية كاملة بما في ذلك حقوقه السياسية وينال نصيبه المنصف من ثمار التنمية وكلها حقوق مشروعة توفر للمواطن أمناً إنسانياً يعظم شعوره بالمسئولية والانتماء مما ينعكس إيجاباً علي استقرار المجتمع وهو ما يعزز الأمن القومي بالدرجة الأولي.