محمد بركات في ظهر يوم السبت السادس من أكتوبر غادر الفريق أول أحمد اسماعيل مركز القيادة رقم عشرة ليعود بعد ساعة بصحبة الرئيس السادات القائد الأعلي للقوات المسلحة إيذاناً ببدء العد التنازلي لساعة الصفر المحددة لانطلاق معركة المصير. مع بدايات شهر أكتوبر من كل عام، وبطول الأربعين عاماً الماضية، ومن بعدها العام الحالي، تهب علينا نسائم النصر تذكرنا بملحمة العبور وتحرير الأرض واسترجاع الكرامة، ..، وفي ذات التوقيت ونفس التاريخ من كل عام، وبطول السنوات التي مضت منذ العام الثالث والسبعين وتسعمائة وألف وحتي اليوم، تهب علي إسرائيل ريح مقبضة محملة بذكريات مؤلمة عن الهزيمة الموجعة وسقوط الأساطير التي روجتها عن الجيش الذي لا يقهر والذراع الطويلة التي لا تكسر. وفي كل عام من تلك الأعوام كانت إسرائيل تستبق قدوم السادس من أكتوبر، بالبحث في الأسباب التي أدت لما حدث لها في حرب أكتوبر، والتأكيد علي أن ذلك التقصير غير قابل للتكرار. ولكن هذا العام حدث شيء مختلف، وخرجت إسرائيل عن مألوف عادتها لتدعي وتزعم أنها حققت النصر في حرب أكتوبر، جاء ذلك علي لسان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي في محاولة فجة ووقحة لتزييف التاريخ، الذي شهد عليه العالم كله، وعايش وقائعه وأحداثه لحظة بلحظة في السادس من أكتوبر عام 1973. ورغم الكذب الواضح والبهتان البيّن في ادعاء المتحدث الإسرائيلي، وبالرغم من أن أحداً في العالم كله لن يستقبله أو يتلقاه بغير السخرية والاستهزاء، نظراً لكونه متعارضاً مع جميع الحقائق التاريخية الثابتة والمؤكدة للعالم كله، ..، إلا أن هذا الادعاء يكشف لنا بوضوح مدي عمق الجرح الغائر الذي أحدثته حرب أكتوبر في الجسد الإسرائيلي، ومحاولاتهم اليائسة للبحث عن وسيلة لعلاج ذلك، ولو حتي بالادعاء الكاذب ومحاولة تزييف التاريخ بأي صورة ممكنة، حتي ولو أدي الأمر إلي الترويج لوقائع غير حقيقية ونتائج وهمية أو متخيلة. رد الفعل وإذا كان هناك رد فعل منتظر من جانبنا نحن علي الادعاءات الإسرائيلية الكاذبة ومحاولاتهم الفجة لتغيير الوقائع وتزييف التاريخ، فلابد أن يكون هو التنبه للغرض الخبيث من وراء هذه الادعاءات رغم إدراكهم لكذبها وعدم صحتها، وهذا الغرض هو أن تكون هذه الفرية والأكذوبة موجودة علي «الفيس بوك» والعالم الالكتروني أمام الشباب الذين لم يعاصروا الحرب ولم يعايشوا وقائعها وأحداثها، ولم يعرفوا حقيقة ما جري. ومن هنا تأتي الأهمية البالغة للحرص علي أن يعرف الأبناء من الشباب الذين لم يعاصروا الحرب ولم يعايشوا أيامها المجيدة التي غيرت وجه المنطقة والعالم، حقيقة ما حدث في ملحمة العبور وقصة النصر، الذي كان زلزالاً قوياً هز إسرائيل وأدهش العالم وفرض علي الجميع إعادة النظر في أوضاع المنطقة وسياساتها. وفي ذلك لابد أن نرسخ في نفوس الأبناء والشباب بالذات، أن المفاجأة الحقيقية في نصر أكتوبر الذي قلب الموازين وغير الثوابت بالمنطقة كلها، كانت هي قوة وصلابة الإنسان المصري، وحبه الهائل وغير المحدود لوطنه، واستعداده للتضحية من أجله، والدفاع عن ترابه الوطني، وتقديم دمه وروحه فداء لكل حبة رمل من أرضه الطاهرة. في إسرائيل ولو تابعنا وقائع ما حدث وما دار قبل وأثناء وبعد ملحمة العبور والنصر، لوجدنا كل الدلائل تشير إلي أن المفاجأة بالنسبة للعدو والعالم، كانت هي قدرة الإنسان المصري علي تحدي المستحيل وكسر القواعد والمسلمات التي كانت تؤكد عجزه عن الحركة بعد الهزيمة القاسية التي ألمت به عام 1967، والتي كان متصوراً من جانب العدو أنها ستدفع المصريين للاستسلام التام لعقود كاملة من الزمن، ..، فإذا بهم ينهضون من كبوتهم في بضع سنين لم تتجاوز الست ليواجهوا عدوهم ويصارعوه عقلاً بعقل، وإرادة بإرادة، وذراعاً بذراع، ..، وإذا بهم يحطمون أسورة الجيش الذي لا يقهر، ويحررون الأرض بعد ملحمة رائعة من القتال والحرب، ..، ويسجلون تاريخاً مجيداً للعسكرية المصرية شهد به العالم كله شرقه وغربه. ولو عدنا بالذاكرة إلي تلك الأيام وقلبنا في الأوراق الإسرائيلية وما جاء في مذكرات جولدا مائير رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت وما ذكره موشي ديان وزير الدفاع أيضاً، لوجدناهما يؤكدان كل بمفرده، أن كلا منهما كان ينتظر خلال الشهور القلائل السابقة علي حرب أكتوبر 1973 رنين الهاتف القادم من مصر يعلن الاستسلام وطلب الصلح. بل الأكثر من ذلك، عندما وردت إليهما معلومات استخبارية قبل الحرب بأيام، ..، ثم قبلها بساعات، تشير إلي أن المصريين يقومون باستعدادات غريبة علي طول الضفة الغربية للقناة، وأن هذه الاستعدادات يمكن أن تكون مقدمة لتحرك عسكري، استبعد كلاهما ومعهما رئيس الأركان للجيش الإسرائيلي أي قدرة للمصريين علي القتال. كان الغرور قد تملكهم فتصوروا أن مصر قد استسلمت بالفعل لهزيمة 67 وأنها غير قادرة علي الحركة لسنوات طويلة قادمة، وليس أمامها سوي مذلة طلب الصلح بأي ثمن، ..، ولذلك كانت المفاجأة مذهلة وكان الثمن باهظاً. في مصر وإذا كانت هذه هي الصورة في إسرائيل قبل الحرب بشهور وصولاً إلي ما قبلها بساعات، فإن الصورة في مصر كانت مختلفة، بل علي النقيض تماماً، فقد كانت الاستعدادات تجري علي قدم وساق للانطلاق نحو معركة المصير وتحرير الأرض، واستعادة الكرامة والثأر لهزيمة 1967 وما جري فيها. كانت القوات المسلحة المصرية قد أكملت استعدادها لليوم الموعود وأتمت تدريباتها الميدانية علي اقتحام المانع المائي المشابه للقناة، وأيضاً تسلق الساتر الترابي والاستيلاء علي خط بارليف وتدميره وإقامة كباري العبور، ولم يتبق سوي التطبيق الواقعي في ميدان القتال. وفي ذات الوقت كانت القيادة المصرية قد أتمت استعدادها للمعركة انتظاراً للحظة الحسم. ففي ظهر يوم السبت السادس من أكتوبر 1973، وفي تمام الساعة الثانية عشرة والنصف، غادر الفريق أول أحمد اسماعيل، القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية، مركز القيادة السري الذي تم إعداده لإدارة وقيادة حرب أكتوبر وأطلق عليه «مركز 10»، وترك وزير الحربية مجموعة القادة وغادر دون أن يخبر أحدهم إلي أين هو ذاهب، ..، ولكنه توجه من فوره إلي الجيزة، قاصداً منزل الرئيس السادات ليصحبه معه عائداً إلي مركز القيادة «رقم 10» ليدخل الرئيس السادات بوصفه القائد الأعلي للقوات المسلحة ومعه القائد العام وزير الحربية إلي مركز قيادة الحرب، في الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة، استعداداً لبدء العد التنازلي لانطلاق معركة المصير، التي كانت بمثابة الزلزال الضخم الذي هز إسرائيل وأطاح بغرورها، وحطم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وغير ميزان القوي بالمنطقة، وفرض واقعاً جديداً وتوازنات جديدة علي المستويين الاقليمي والدولي. كان دخول القائد الأعلي للقوات المسلحة المصرية، الرئيس السادات، وبرفقته القائد العام وزير الحربية الفريق أول أحمد اسماعيل إلي مركز القيادة قبل عشرين دقيقة من ساعة الصفر المحددة لبدء المعركة والمقرر لها الساعة «1405» أي الساعة الثانية وخمس دقائق بعد ظهر اليوم المشهود «السبت السادس من أكتوبر العاشر من رمضان». مركز القيادة ومركز القيادة «رقم 10» الذي خصص لإدارة مبني مجهز تجهيزاً تاماً ليكون علي اتصال دائم ومتابعة مستمرة طوال الليل والنهار بكل قيادات وفرق الجيش. أما غرفة القيادة فهي مساحة متسعة تحتلها طاولة كبيرة جلس القائد الأعلي في منتصفها وعلي يمينه وزير الحربية وعلي يساره رئيس أركان حرب القوات المسلحة الفريق الشاذلي.. وفي مواجهة الرئيس السادات في الناحية الأخري من الطاولة يجلس اللواء حسن الجريدلي سكرتير عام وزارة الحربية وبجانبه اثنان من الضباط يتناوبان كتابة الأوامر الصادرة عن القائد الأعلي أو القائد العام أو رئيس الأركان. وعلي مقربة من طاولة الاجتماعات الرئيسية كان اللواء الجمسي رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة يجلس علي مكتب وبجانبه نائبه متأهبين لمتابعة العمليات فور بدئها، ..، ثم مكتب خاص بالسيطرة علي شئون غرفة القيادة ويجلس عليه اثنان من الضباط برتبة عميد يتوليان جميع الأمور الخاصة بترتيبات العمل والنظام والسيطرة علي المكان. وفي الجانب المقابل من القاعة توجد شاشة من الزجاج مرسوم عليها خريطة شاملة لمسرح العمليات «منطقة القناة وسيناء كلها» موضح عليها المطارات العسكرية ومواقع العدو، وموضح عليها أيضاً الطائرات المشاركة والمميزة بلون خاص لطائراتنا ولون مختلف لطائرات العدو، وجميع الرسوم علي هذه الشاشة تتم علي الزجاج من الخلف بطريقة عكسية حتي تكون واضحة ومضبوطة بالنسبة لرؤية القادة الموجودين بغرفة القيادة. وهناك خريطة كبيرة معلقة علي الجانب الآخر من مركز القيادة «رقم 10» توضح خطة الحرب التي يجري تنفيذها وحولها ضباط فرع التخطيط المكلفون بمتابعة تنفيذ الخطة. الهدف من البديهي بالنسبة لنا جميعاً، وبالنسبة لغيرنا أيضاً، أننا لو سألنا أي إنسان عما كانت تريده مصر من قيامها بالحرب في السادس من أكتوبر 1973، لكانت الإجابة التلقائية أنها كانت تريد تحرير أرضها المحتلة. هذا طبيعي، ..، لكن بالرغم من ذلك ظهرت إجابات عديدة لهذا السؤال بعد انتهاء الحرب، وبعد توقيع معاهدة السلام، وقبلها أيضاً خلال مفاوضات الكيلو 101 علي طريق السويس. أولاً: البعض قال إن مصر كانت تسعي لتحرير كل الأرض واسترداد سيناء كهدف نهائي، وهذا ما سعت إليه، وعملت له، وخاضت الحرب من أجله علي أن يتم ذلك مرة واحدة وفي جولة متصلة من الحرب لا تتوقف إلا بتحقيق الهدف. ثانياً: البعض الآخر قال إن ذلك الهدف صحيح لكنه هدف نهائي، والوصول إليه يكون علي مراحل، أولاً ينتهي بعبور القناة والوصول إلي المضايق والتمركز هناك، ثم جولة أخري من الحرب يتم من خلالها تحرير جزء آخر من الأرض يصل إلي خط العريش رأس محمد، ثم التمركز، وجولة أخري من الحرب لاستعادة بقية الأرض حتي الحدود الدولية. ثالثاً: هناك من كان له رأي مخالف للرأيين السابقين وإن كان قد اتفق معهما في الهدف النهائي وهو ضرورة تحرير الأرض واستعادة سيناء كلها، وصولاً إلي الحدود الدولية، دون التفريط في حبة رمل واحدة من رمالها، ..، علي أن يتم ذلك علي مراحل وفقاً للرؤية التي قال بها البعض الآخر، ولكن مع تعديل جوهري ينص علي أن تحدد المراحل وفقاً لظروف المعركة مسارها وليس بالضرورة الالتزام بخطوط محددة لكن من الضروري اقتحام المانع المائي بعبور قناة السويس، وتدمير خط بارليف الحصين والاستيلاء علي نقاطه و«دشمه» الحصينة، والتمركز علي الضفة الشرقية للقناة وفقاً لمقتضيات المعارك وتكبيد العدو أكبر قدر من الخسائر وهزيمة جيشه وتدمير قواته. أمر القتال كل هذه الآراء والتحليلات أو الرؤي قال بها البعض واختلفوا حولها، ..، ولكن أقوالهم في النهاية لا تلزمنا بشيء فهي تعبر عن أفكار ورؤي أصحابها فقط، أما الذي يلزمنا فهو الحقيقة، ..، وهذه الحقيقة لا يعرفها غير أصحابها وهم قادة حرب أكتوبر، وعلي رأسهم بالطبع القائد الأعلي للقوات المسلحة الرئيس محمد أنور السادات الذي حدد الهدف، وأصدر أمر الحرب والقتال، ومن قبله أصدر التوجيه السياسي للحرب، ..، ومن بعده يأتي بالطبع أيضاً، وزير الحربية الفريق أول أحمد اسماعيل القائد العام للقوات المسلحة، الذي تلقي أمر القتال الصادر من القائد الأعلي، ومن قبله تلقي أيضاً التوجيه السياسي للحرب، ..، ولهذا قصة يرويها الفريق أول أحمد اسماعيل وزير الحربية في مذكراته. حيث يقول: «أثناء تواجدي في مكتبي يوم الجمعة الخامس من أكتوبر أي اليوم السابق علي ساعة الصفر دخل عليَّ اللواء حسن الجريدلي سكرتير عام وزارة الحربية، وسألني إن كان معي أمر موقع بالحرب والقتال، من القائد الأعلي للقوات المسلحة، فأجبته بالنفي، ..، وأضفت: يا حسن الخطط جاهزة، والرئيس يعرف كل التفاصيل، وأصدر التوجيه السياسي في الأول من أكتوبر»، ..، ولكن حسن أجابني بقوله: «إن الواجب علينا حفظاً للتاريخ، أن يكون معنا أمر مكتوب وموقع من القائد الأعلي للقوات المسلحة، كوثيقة للتاريخ، يتم حفظها بالسجلات الرسمية». وثيقة رسمية ويضيف الفريق أول أحمد اسماعيل: «إن ذلك هو ما حدث فعلاً، فعندما جاء الرئيس السادات إلي مركز العمليات مساء نفس اليوم الخامس من أكتوبر لمتابعة الاستعدادات النهائية للقوات المسلحة، وقع علي أمر القتال، الذي كتب نصه اللواء حسن الجريدلي ، وكان نصه: توجيه استراتيجي من رئيس الجمهورية والقائد الأعلي للقوات المسلحة إلي الفريق أول أحمد اسماعيل علي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة.. 1 بناء علي التوجيه السياسي العسكري الصادر لكم مني في أول أكتوبر 1973، وبناء علي الظروف المحيطة بالموقف السياسي والاستراتيجي: قررت تكليف القوات المسلحة بتنفيذ المهام الاستراتيجية الآتية: أ إزالة الجمود العسكري الحالي، بكسر وقف إطلاق النار اعتباراً من يوم 6 أكتوبر 1973. ب تكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة في الأفراد والأسلحة والمعدات. ج العمل علي تحرير الأرض المحتلة علي مراحل قتالية حسب نمو وتطور إمكانيات وقدرات القوات المسلحة. 2 تنفيذ هذه المهام بواسطة القوات المسلحة المصرية منفردة أو بالتعاون مع القوات المسلحة السورية، ..، ..، «انتهي نص الوثيقة». ويقول أحمد اسماعيل في مذكراته: «وهكذا سجل التاريخ وثيقة أمر بدء القتال والموقع من الرئيس السادات في الخامس من أكتوبر عام 1973». ونحن نقول إن هذه الوثيقة قد وضعت حداً لكل الآراء والرؤي التي اجتهد أصحابها في استنتاج فحوي ومضمون أمر القتال حيث بات واضحاً من النص، أن الهدف تحرير الأرض المحتلة علي مراحل حسب إمكانيات وقدرات القوات المسلحة مع إلحاق أكبر خسائر ممكنة بالعدو. وفي تمام الساعة 1405 الثانية وخمس دقائق حانت ساعة الصفر وانطلقت طائرات سلاح الجو المصري وقاذفاته الثقيلة عابرة قناة السويس لتدك مواقع العدو من المطارات ومراكز القيادة والسيطرة ومخازن تشوين الأسلحة ومراكز الإنذار وقواعد الرادارات وغيرها في موجة كاسحة تضم 222 مائتان واثنتان وعشرين طائرة معلنة بداية معركة النصر وتحرير الأرض واسترداد الكرامة.. ومسطرة بذلك صفحة جديدة من صفحات التاريخ في هذه المنطقة من العالم.