لم صدق عيني وأنا أتجول بسيارتي في ميدان التحرير.. شارع طلعت حرب (سليمان باشا سابقا)، شارع قصر النيل، شارع 26 يوليو (فؤاد سابقا) وأري المشهد الحضاري الذي كنا نشاهده بانبهار في الأفلام القديمة ، الأبيض وأسود. الميدان والشوارع المشتقة منه علي شكل نجمة وقد عادت إلي جمالها وبريقها بعد ترحيل الباعة الجائلين الذين عاثوا في المنطقة قبحاً وتشويهاً في ظل فوضي عارمة اجتاحت البلاد طوال السنوات الثلاث الماضية. الحملة الرائعة التي تمت خلال الأيام الماضية لإعادة الوجه الحضاري لقاهرة المعز ومركزها: وسط البلد تستحق من كل مواطن مصري غيور علي وطنه كل التقدير والدعم والمؤازرة. ليست فقط لأنها ترمز لعودة هيبة الدولة، ولكن لأنها تحرر قلب العاصمة من ذلك الإحتلال الكريه الذي يمثل العبث والتخلف والتردي الأخلاقي بكل صوره. الشيء الرائع أن يتم التخطيط لتلك الخطوة المهمة بصورة واقعية تراعي مصالح هؤلاء الباعة الجائلين وتنقلهم إلي ساحة الترجمان مؤقتاً حتي يتم تجهيز ساحة أخري لتكون مقراً دائماً لهم بعد ستة أشهر وهي ساحة «وابور الثلج». التغيير دائماً ما يقابل بالرفض في البداية وهذا ما أبداه البعض، وهذا شيء طبيعي حتي تستقر الأمور ويقتنع الجميع أن المصلحة العامة ينبغي أن تحقق المصلحة الخاصة علي المدي الطويل. وهذه هي الثقافة التي آن الأوان أن نعيها ونتعلمها. و ذاكرة الوطن هي الشيء الذي ينبغي أن نستدعيه في مثل تلك الأوقات حتي نقاوم بكل قوة أي مساس بالوجه الحضاري لبلد الحضارة: مصر. يجب أن نتذكر في هذه الأوقات قصة تخطيط «وسط البلد» التي استعان الخديو اسماعيل في تخطيطها بمهندسين فرنسيين هم أنفسهم الذين شاركوا في تخطيط باريس. واستخدمت نفس الفكرة في القاهرة الخديوية(منطقة التحرير ووسط البلد ). وهي الميدان المحوري الذي يشبه نجمة ضخمة تتفرع منها أشعة تمثل الشوارع الرئيسية. كان ذلك في إحدي زيارات الخديو اسماعيل لباريس عندما طلب شخصياً من الإمبراطور نابليون الثالث أن يقوم «هاوسمان»المهندس المعماري الذي قام بتخطيط باريس بتخطيط القاهرة الخديوية، وأن يحضر معه الفنانين والبستانيين الذين استعان بهم. كان الهدف أن تتحول القاهرة إلي تحفة معمارية تنافس أجمل مدن العالم، وهذا ما حدث. أطلق عليها كتاب الغرب حينذاك «باريس الشرق». وبهذا التخطيط مثلت القاهرة الخديوية بداية العمران المصري في صورته الحديثة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وأصبحت وقتها واحدة من المشروعات العالمية البارزة التي خرجت إلي حيز الوجود بالشكل الذي جعلها تضاهي أجمل مدن العالم. استدعاء تاريخنا ملهم ومهم في تلك اللحظة الفارقة التي نستعيد فيها الوطن. وأخيراً شكراً للمهندس إبراهيم محلب.