عصام حشيش « البديع هو حب وتقدير أهل بنجلاديش لنا نحن العرب لأنهم يروننا أحفاد الصحابة الذين نشروا الإسلام بينهم فراحوا يردون الفضل لهم بتوقيرنا ومحبتنا..» هل رأيت اجتماعا يضم في مكان واحد اكثر من ثلاثة ملايين إنسان يأكلون وينامون ويناقشون ويتعلمون دون أن تحدث بينهم حادثة واحدة ودون أن يشكو واحد منهم من قلة طعام أو زحام أو سوء منام؟ أنا لا أتحدث هنا عن الحج والعمرة حيث يجتمع ملايين المسلمين في مكة والمدينة ولكن اتكلم عن اجتماع «الدعاة الي الله» الذين يتوافدون من كل أنحاء العالم إلي بنجلاديش في شهر يناير من كل عام لمناقشة ما وصلت اليه احوال الدعوة الاسلامية ومراجعة مستوي انتشار الدين بين سكان العالم، المكان يبدو صغيرا علي هذه الاعداد الضخمة التي اقيمت لها خيام هائلة لم أر مثل اتساعها في حياتي. وفي هذه الخيام يعيش الدعاة ثلاثة أيام لاتنسي يتعلمون فيها فكر الطاعة لله، والمسئولية عن الدين.. المسئولية التي غابت عن حياة كثيرة من المسلمين اعتقدوا ان الدين منحة مجانية ندخل بها الجنة ولم يدركوا أنها مسئولية علينا أن نؤدي حقها بعمل الدعوة إلي الله وفي الاجتماع تتم مراجعات كلها تدور حول سؤال محوري وهو لماذا خلق الله الانسان في الدنيا. وهل هو قائم علي تحقيق الهدف الذي من أجله خلق وهو العبادة بمعناها الواسع أم جذبته أضواء الدنيا فانصرف عن المطلوب إلي المخلوق وانشغل به عن الخالق؟ هذه الاسئلة نفسها يتم طرحها في اجتماعات أخري مشابهة تتم في الهندوباكستان في شهري نوفمبر وديسمبر من كل عام ولكن الاجتماع الاكبر والذي تشارك فيه هذه الملايين ومن بينهم 150 داع الي الله من اوروبا وامريكا والدول العربية هو ذلك الذي يتم في العاصمة البنغالية دكا.. وبسببه تزداد اعداد المسلمين باستمرار حتي قيل إنه لم تعد هناك دولة أو مدينة لايباشر فيها جهد الدعوة والتبليغ في كل العالم والمثير أن كل الدول والحكومات ترحب بهذا الجهد وتشجعه دون غيره من واقع ادراكها أن هذه الجماعات المسالمة لا تنشغل بالسياسة ولا تسعي وإنما هي تجتهد لارشاد الناس إلي مكارم الأخلاق وتحمل مسئولية الدين، ليس فقط بالصلاة والصوم وإنما بدعوة الناس إلي الله واحياء جهد النبي وطريقته في نشر الدين.. وقد اكرمتني الاقدار بأن أحضر وأشارك في هذا الاجتماع الهائل واري حال المسلمين في توادهم وتراحمهم بعد أن جعلوا الهموم كلها هما واحدا هو هم الآخرة.. فلم أري خناقة أو خلافا وإنما حالة من الإقبال والإنصات والتفكر كنت أشعر بالدهشة البالغة وأنا اري شبابا من روسياوفرنساوأمريكا زرق العيون بيض البشرة وقد اطلقوا لحاهم واعتمروا العمائم وارتدوا الجلباب وتمثلوا ملابس اهل السنة بمنتهي الحب والتواضع وكنت اتابعهم وهم يصطفون لاداء الصلوات في خيامهم عبر ميكرفونات داخلية قوية. وعقب الصلاوات يتحلقون لينصت كل تجمع لصوت المترجم وهو ينقل اليهم بيانات كبار المشايخ وهم يتحدثون عن جهد الصحابة الكرام وأهمية التحلي بصفاتهم التي كانت سببا في نجاحهم لنشر الدين في العالم. ومن أجمل ما رأيته استقبال الجماعات لبعضها في اوقات الراحة للتعارف والتآلف رأيت جماعة ماليزيا تزور جماعة بريطانيا. وجماعة أمريكا تزور جماعة فرنسا. واسعدني زيارة جماعة اليابان لنا في مخيم العرب. وذهلت ونحن نتبادل الاحاديث باللغة الانجليزية ان اليابان التي يبلغ سكانها 192 مليون نسمة لايزيد عدد المسلمين فيها علي 150 الف فقط وهي اقل نسبة للمسلمين في منطقة من العالم والاغرب ان هذه النسبة كان يمكن ان تكون اقل لولا أن مئات الشباب من باكستانوالهند تفكروا في السبعينات في أمر انحسار الاسلام في اليابان فسافروا اليها وعملوا فيها وتزوجوا من يابانيات بنية انتاج جيل جديد من المسلمين يجتهد لنشر الاسلام في هذه البلاد البعيدة. وهذا ما يحدث الآن لان نسل هؤلاء الاوائل كان من بين الجماعة التي زارتنا! وعجبت كل العجب من التقدير منقطع النظير من أهل بنجلاديش لنا نحن العرب وهو تقدير يصل للتقديس لأنهم يروننا أحفاد الصحابة الذين جلبوا لهم أنوار الهداية الاسلامية فوجبت محبتهم لنا لهذا النسب الذي يجمعنا بهم وراحوا يردون الفضل للصحابة بتوقيرنا واحترامنا!.. ثلاثة أيام كانت مليئة بالذكريات والاخلاص جعلتنا نتوجه إلي الله بالشكر النابع من القلب لأنه خلقنا مسلمين بدون اختيار منا. وكان هذا اكبر اختبار علينا أن نؤدي حقه لله بدعوة الناس اليه. إسلام أمريكي السبت اشفقت عليهما من البرد القارس.. الأب أمريكي جاء إلي مصر ليدرس الشريعة الاسلامية بعد أن هداه الله للاسلام قبل عدة أعوام. وابنه الذي لم يتعد الخامسة من عمره وهما يتدثران باثقل ما عندهما من ثياب يستعينان بها علي البرد الشديد وهما في طريقهما لاداء صلاة الفجر في المسجد القريب بالمقطم. يداعب المصلون الصغير ذو الشعر الاصفر والعيون الزرقاء ربما لتهوين عبء الغربة عنه: كيف حالك اليوم يانوح؟. ويرد الصغير بالعربية الفصحي: اني بخير. فيصحح ابوه الجملة ويوجه له حديثه معاتبا: بل قل الحمدلله يانوح فيستدرج الصغير متجاوبا بانكسار: الحمدلله! حالة من الاعجاب والسعادة تنتابني كلما رأيت هذا المشهد. فرغم اننا قد نري مثله عند مصريين الا ان الصورة تكتسب ابعادا اكثر اثارة مع الاجانب خاصة الذين اختاروا الدخول في الاسلام عن قناعة وثقة.. ولكن لا اعرف لماذا تحول الاعجاب الي إشفاق ثم الي خوف علي نوح وابيه شعرت بالخوف من ان تتسبب تكاليف الدين وصلاة المساجد في برد الشتاء في ابتعادهما عنه. وخطر ببالي أن الاب ربما قال في نفسه: مالي أنا وهذا الدين المرهق. فحياتي السابقة كانت سهلة وبدون تكاليف: وربما دفعه شيطانه إلي أن يهرب من الاسلام الي ماضيه المظلم. ووجدتني أخاطب الاب ونحن في طريق العودة الي المنزل يشد كل منا عباءته الي عنقه وبيننا الصغير الذي أخلد كفيه بين اصابعنا: لماذا لا تصليان في البيت. أظن أن بوسعك أن تصلي في المنزل حماية للصغير من هذا البرد القاسي. ووجدته ينظر اليّ نظرة استنكار شعرت بسخونتها ولكنه لم يعلق وانتقلت للحوار مع نوح الذي يحرص ابوه ألا يتحث إلا باللغة الفصحي: ماذا تحب من الحلوي يانوح؟ فيرد: أحب العسلية. وأضحك من قلبي لتعبيره: غدا سأحضر لك صندوقا من العسلية. ويقاطعني الاب بسرعة: ارجوك لاتفعل فأسنانه صارت في حالة يرثي لها!.. في اليوم التالي وعند صلاة العشاء وجدت الاب بمفرده ينتظرني. وعقب الصلاة فوجئت به يعاتبني بحرارة علي ما قلته في الفجر. وكنت قد نسيت.. قال لي مؤنبا: كيف تطلب مني ان اصلي في المنزل وانت تعرف قيمة صلاة المساجد. وادركت وبررت له بصراحة.. قلت: شعرت بالقلق عليك وخفت أن ترتد عن الاسلام لمشقته. وإذا بالرجل يلقنني درسا لاينسي.. وباستنكار قال: أنا ارتد عنه.. مستحيل.. وكانت فرصة أن يروي لي عن الشرارة التي أشعلت في نفسه الرغبة لدخوله الاسلام. هو من ولاية تكساس. كان يعمل بأحد المطاعم الكبري وغالبا ما يعود إلي بيته كل يوم وآثار الكحول تسري في دمه. وفي مرة فوجيء بجيرانه الباكستانيين يصلون في حديقة صغيرة أمام منزله. يقول جراف الذي اصبح اسمه يحيي جراف: كنت اسمع احدهم يتلو الآذان بصوت جميل لا أفهم منه كلمة واحدة ولكنه كان يخترق قلبي. وأجد زملاءه يتجمعون الواحد بعد الآخر ويصطفون ليتقدم واحد منهم ليقودهم واسمعهم يقرأون القرآن ويقومون بحركات منتظمة باطمئنان وخشوع إلي أن ينتهوا. واراهم بعد ذلك يتصافحون وعلي وجوههم بشر وسعادة وكأنهم يتبادلون التهنئة لقيامهم بعمل عظيم. كنت انظر اليهم باعجاب وراودني احساس بأني اريد أن أنضم اليهم واكون مثلهم. وهذا ما جعلني أتجاوب بسرعة مع واحد منهم عندما لاحظني وجاء يتودد إليّ ويسألني عن رأيي فيما يفعلون. وقتها لم اخجل وقلت له بكل شجاعة اريد أن أفعل كما تفعلون. وكانت هذه هي البداية بدأ هو بعدها بمساعدتي في قراءة القرآن والاستماع لحلقات العلم إلي أن قررت بكل قناعة أن انتقل الي الاسلام بل واتحول الي داعية له منذ اللحظة الاولي. والحمدلله تجاوبت معي زوجتي واسلمت وارتدت الحجاب. ولكنني لم استطع بعد ان أقنع والداي واصدقائي وقررت أن آتي إلي مصر واتقنت اللغة العربية والتحقت بالأزهر لاتعلم كيف ادعو الناس إلي الاسلام حتي اعود لاهلي وبلدي واساعدهم للدخول في الاسلام. ويسكت يحيي جراف قليلا ويعود لقضيته الأولي: هل بعد ذلك تدعوني لأن اترك صلاة المسجد لاصلي في المنزل مع النساء؟! ولم أعرف بماذا ارد عليه. إلا أنني اصررت أن أقوم واقبل رأسه اعتذارا له عما جال بخاطري تجاهه.. ورحت ادعو له بالتثبيت.. فمثله سيكون سفيرا للاسلام في قومه. ولأن يهدي الله به رجلا واحدا سيكون له خيرا مما طلعت عليه الشمس. أعظم خاتمة! الخميس: هل هناك أفضل من أن يختار الله لعبده لحظة سجوده في الصلاة لكي يختم له فيها حياته؟! كثيرون تمنوا هذه الخاتمة باعتبارها الاعلي والارفع في درجات العبد ولاينالها إلا الذين يحبهم الله ويختم له بخاتمة السعادة. ولكن العلماء قالوا إن هناك ما هو أعلي وارفع مقاما من هذه النهاية.. وفتحت أذناي لأسمع واعرف.. فقالوا: أفضل منها أن يقبض الله عبده وهو يقضي للناس حاجاتهم.. فيختار أن تنتهي حياته وهو يساعد ارملة أو يعين محتاجا أو يغيث ملهوفا يساعده بماله أو بجهده أو بوقته فيموت وهو يؤدي هذا الواجب.. فذلك أعلي درجة من الاول الذي مات وهو ساجد.. وفي الترغيب علي مساعدة اصحاب الحاجات عشرات الاحاديث النبوية الرائعة تكشف عن جوائز هائلة.. منها مثلا «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسر علي معسر يسر الله عليه في الدنيا والاخرة. ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والاخرة. والله في عون العبد ما كان العبد في عون اخيه» ومنها «الخلق كلهم عيال الله فأحب خلقه اليه انفعهم لعياله» ومنها قول الحبيب «من قضي لاخيه المسلم حاجة كنت واقفا عند ميزانه فإن رجح وإلا شفعت له».. وأنظر لهذا الحديث العجيب عن الحبيب صلي الله عليه وسلم «من سعي لاخيه المسلم في حاجة، قضيت له أو لم تقضي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكتب له براءتين براءة من النار وبراءة من النفاق».. واخيرا وليس آخرا هذا الحديث الرائع «من أغاث ملهوفا كتب الله له ثلاثا وسبعين حسنة واحدة منها يصلح بها اخرته ودنياه.. والباقي من الدرجات».. تري هل هناك اعظم واروع من أن يقضي الانسان للناس حاجاتهم في الدنيا ويموت علي ذلك.. بالطبع هذا أعظم. ومع ذلك يقول العلماء إن هناك ما هو أفضل.. نعم فإذا كان قضاء حوائج الدنيا بهذا القدر فكيف بالذي يقضي للناس حوائج الدين ويموت وهو في سبيل الله يدافع عن دينه أو يعلم الناس أمور دينهم ومعرفة ربهم فيبغضه الله علي ذلك فهذا في الفردوس الاعلي مع الانبياء والصديقين لأنه كان جنديا من جنود الله في الارض.. فالدين في النهاية ليس فقط صلاة وصياما ولكنه جهد وعمل يبذله الانسان بمساعدة الاخرين وقضاء حاجاتهم في الدين والدنيا.. فهذا هو الاعلي والارفع منزلة. ولكن الشيطان يغري الانسان بأن يوقفه عند حدود نفسه لايتخطاها فيمد يد العون لغير آخر الكلام ربنا في تدبيرك ما يغني عن الحيل.. وفي كرمك ماهو فوق الأمل.. وفي حلمك ما يسد الخلل.. وفي عفوك ما يمحو الزلل.. اللهم فبقوة تدبيرك وعظيم عفوك وسعة حلمك وفيض كرمك دبر امرنا والطف بنا ونجنا من شرور انفسنا ومن سيئات أعمالنا.. فلا نهلك وانت ملاذنا.. ولا نضام وانت حسيبنا. ولانفتقر وانت نصيرنا.. صلوا علي الحبيب