ليس من قبيل المصادفة أن تحولت السياسة في بلادنا إلي مصغرة ورعونة وخفة، غابت في ظلالها الباهتة آمال الثورة وطموحاتها، وهددت الفوضي والعشوائية نظام الدولة وأركانها، فمصر تحت حرب من الجيل الرابع تشنها قوي دولية بأيدي المارقين من أبنائها، ولا سبيل لنا إلا بإعادة هيكلة الدولة و"تنظيم العمل" للتحسب من تداعياتها. ولقد عالجنا في مقال سابق كيف أننا بالفعل تحت حرب غادرة من الجيل الرابع للحروب تشنها علينا قوي دولية وإقليمية، وهي حرب لاتحتاج جيوشاً وعتاداً ونفير، قدر حاجتها إلي أفكار وتمويل وتدبير، حرب تسعي لزعزعة الإستقرار وإحداث الفوضي واستهلاك طاقة الجيش والشرطة وإرباك معادلات التوازن في المجتمع، معتمدة في ذلك كله علي نساء وفتيات وأطفال الإخوان وتمويل تنظيمهم الدولي وعناصره الإرهابية المسعورة، وطابور خامس موال للغرب وممول منه، يؤسس للفوضي، ويبرر للإرهاب تحت عباءة الحريات العامة، ويسفه ثوابتنا الوطنية عن دولة العدل والقانون والاستقلال وتقدير قواتنا المسلحة، بقصد بلبلة الأفكار وإثارة الشباب وممارسة الضغوط علي حكومة رخوة، عينها علي إشارات الخارج أكثر من إهتمامها باستحقاقات الداخل. ولقد قدمت لك في مقالي 14 يناير الجاري جزءاً من محاضرة خبير المخابرات العسكرية الأمريكية في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي بعنوان" كيف يدير الغرب حروب اليوم" وبينت لك كيف يتطابق مايقوله عن حروب الجيل الرابع مع مايحدث علي الأرض في بلادنا، إنها حالة حرب حقيقية، في غفلة من حكومتنا السنية "بفتح السين". إن حكومة قصاري جهدها هو خلط صغائر الأمور بكبارها، لا مخرج لنا إلا بسرعة تغييرها، كمدخل لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة وتنظيم العمل. في كتابه "تقسيم العمل الإجتماعي- 1893" ناقش عالم الإجتماع السياسي الفرنسي"إميل دوركايم"، دور الدولة في إدارة المجتمع من خلال تنظيم العمل، بوصفه عملية تاريخية أخذت في الظهور مع أواخر القرن الثامن عشر، واعتبر تنظيم العمل عملية ضرورية لتحقيق التضامن بين الناس بصرف النظر عن الترتيبات الطبقية من حيث الثروة والنفوذ والهيبة الإجتماعية، بمعني أن يكون للدولة دورها المحوري في ترسيخ النسق الأخلاقي العام في المجتمع لتحقيق العدالة، وتفادياً للصراع والصدام بين أفراد المجتمع، وحتي لاتسود سلوكيات القطيع المنفلته كما نراها حولنا. إن تنظيم العمل فوق كونه ظاهرة إقتصادية، فهو شرط أساس للحياة والسلم الإجتماعي والأمن والتنمية والإستقرار. وهكذا تطورت فكرة العقد الإجتماعي "الدستور"، وفكرة القانون وما استصحبهما من قيم المساواة وتكافؤ الفرص، وأن الناس جميعاً أمام القانون سواء. وعلينا أن نجعل من هذه الأفكار أسس إعادة هيكلة الدولة ومؤسساتها، حتي يتسني لنا كسب الحرب القائمة. مما سبق، يتضح أن دور الدولة في "تنظيم العمل" فوق أنه توجه إنساني تربوي أخلاقي قانوني إقتصادي، فهو أيضاً تأسيس وترسيخ لقيم الحداثة والديمقراطية والعدالة الإجتماعية ومفهوم "الدولة الحارسة" في الفكر السياسي المعاصر. وهذه هي الحدود الدنيا لدور الدولة، والتي نراها مهدرة أو غير مكتملة في فكر وسياسات وأداء حكومتنا المغيبة، ما تسبب في الفوضي والرخاوة وتآكل دور الدولة وتزايد عنف الإرهاب وبجاحته. من الصحيح أيضاً أن أفكار "دوركايم" جاوزتها وناوشتها أفكار ونظريات لاحقة عن "الدولة الحاكمة" وتغير دور الدولة تباعاً مع أفكار الماركسية، والليبرالية الجديدة وصولاً إلي أفكار وأطروحات "أنتوني جيدنز" في الطريق الثالث ودور الدولة الحارسة، وفرانسيس فوكوياما عن "نهاية التاريخ والإنسان الجديد"، والمحافظين الجدد والدولة الإمبراطورية الكلونيالية "الإستعمارية" الجديدة، في ظل مقولات الإنتصار المطلق لقيم الرأسمالية، التي سرعان ماتهاوت في أزمة إفلاس بنك "ليمان براذرذ" وفضائح شركات أمريكية كبري مثل "إنرون" و "هالي بيرتون"، وسقوط الفكرة المركزية لرأسمالية الدولة في أغسطس 2008 من خلال توحش الإقتصاديات الإفتراضية وأزمة التوريق والإستثمار العقاري وإفلاس مقولات "آليات السوق وحرياته"، لتعود للدولة صدارتها مرة أخري في تنظيم العمل، والتدخل في آليات السوق والرقابة المصرفية وتسقط جدلية اليمين الليبرالي واليسار الإشتراكي، ما أعطي الدولة دوراً جديداً أكثر قوة وتحكم في تنظيم العمل. لقد طرحت في مقالي السابق أفكاراً عن التنوير وضرورات مواجهة تطرف الفكر الأصولي، واقتصادات المعرفة حلاً لإعادة هيكلة إقتصادنا التقليدي الضعيف، وناقشت أيضاَ مستقبل الجامعات ومؤسسات التعليم والبحث العلمي باعتبارها رافداً إقتصادياً إستراتيجياً، فوق كونها قطاعاً خدمياً، قاصداً تقديم رؤي جديدة للتقدم والنهضة، تصلح أن تكون قاعدة لبرامج وسياسات لجمهورية حداثية أطر لها دستورنا الجديد، تلبي شروط التقدم واستحقاقاتها، ويتم في ضوئها إعادة هيكلة الدولة بمؤسساتها وتوجهاتها، لأنها حتم تاريخي وليس من قبيل الرفاهة أوالوجاهة.