بالكليات والبرامج الدراسية، 7 جامعات أهلية جديدة تبدأ الدراسة العام المقبل    المركزي الأوروبي: خفض أسعار الفائدة قد يتوقف    استمرار أعمال التجميل ورفع المخلفات بميادين الإسماعيلية    مصدر بالنقل: الأتوبيس الترددي أصبح واقعًا وعقوبات مرورية رادعة تنتظر المخالفات (خاص)    ارتفاع ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 72 شهيدا منذ فجر اليوم    تقرير: ايران تكشف إحدى أكبر الضربات الاستخباراتية في التاريخ ضد إسرائيل    رئيس الوزراء الباكستاني يهنئ الرئيس السيسي بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك    الصين توافق على تصدير بعض المعادن النادرة قبل المحادثات مع الولايات المتحدة    زيزو: تفاجأت من رد فعل لاعب بالزمالك كنت أُكبره.. وتغير بدون مبرر    سبورت: برشلونة يقدم عرضًا لشتيجن مقابل الرحيل هذا الصيف    مصرع عامل وإصابة 7 أشخاص من أسرة واحدة في انقلاب تروسيكل بسوهاج    ننشر النماذج الاسترشادية للثانوية العامة مادة الرياضيات البحتة 2025    رامي جمال يحدد موعدًا نهائيًا لطرح ألبوم «محسبتهاش»    القاهرة الإخبارية: شرطة الاحتلال تعتدي على المتظاهرين وسط تل أبيب    توافد جماهيري كبير على مواقع "سينما الشعب" في المحافظات.. (صور)    الحجاج يخلدون رحلتهم الإيمانية في مشاهد مصورة.. سيلفى فى الحرم بين لحظة الخشوع وذاكرة الكاميرا    جامعة القاهرة تستقبل 7007 حالة وتُجري 320 عملية طوارئ خلال يومي الوقفة وأول أيام العيد    لبنان يحذر مواطنيه من التواصل مع متحدثي الجيش الإسرائيلي بأي شكل    لأول مرة.. دعم المعمل المشترك بمطروح بجهاز السموم GC/MS/MS    استعدادات مكثفة لتأمين مركز أسئلة الثانوية الأزهرية في كفر الشيخ    اليوم.. آخر موعد للتقدم لترخيص 50 تاكسي جديد بمدينة المنيا    كل عام ومصر بخير    عيّد بصحة.. نصائح مهمة من وزارة الصحة للمواطنين حول أكل الفتة والرقاق    إعادة هيكلة قطاع الكرة داخل الزمالك بخطة تطويرية شاملة.. تعرف عليها    هدية العيد    مصطفى عسل يتأهل لنهائي بطولة بريطانيا المفتوحة للإسكواش    سلمى صادق واندريا بيكيا وشريف السباعى فى أمسية ثقافية بالأكاديمية المصرية بروما    حركة فتح: مصر تؤدي دورًا محوريًا في القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية    القومي للمرأة ينظم لقاءاً تعريفياً بمبادرة "معاً بالوعي نحميها" بكاتدرائية الأقباط الأرثوذكس    فى موسم الرحمة.. مشاهد البر تتصدر مناسك الحج هذا العام.. أبناء يسيرون بوالديهم نحو الجنة بين المشاعر المقدسة.. كراسى متحركة وسواعد حانية.. برّ لا يعرف التعب وأبناء يترجمون معنى الوفاء فى أعظم رحلة إيمانية    السيسي ورئيس الوزراء الباكستاني يؤكدان أهمية تعزيز التشاور والتنسيق تجاه القضايا الإقليمية والدولية    مصرع سيدة أسفل عجلات قطار فى البحيرة    "أكلات العيد".. طريقة تحضير الأرز بالمزالكيا    اللحوم بين الفوائد والمخاطر.. كيف تتجنب الأمراض؟    بعد تخطي إعلان زيزو 40 مليون مشاهدة في 24 ساعة.. الشركة المنفذة تكشف سبب استخدام ال«ai»    ما حكم من صلى باتجاه القبلة خطا؟.. أسامة قابيل يجيب    زلزال بقوة 5.2 درجة يضرب اليونان    إعلام إسرائيلي يدعي عثور الجيش على جثة يعتقد أنها ل محمد السنوار    مها الصغير: أتعرض عليا التمثيل ورفضت    مجدي البدوي: تضافر الجهود النقابية المصرية والإفريقية للدفاع عن فلسطين| خاص    رونالدو يعلن موقفه من المشاركة في كأس العالم للأندية    بشرى تتألق بإطلالة صيفية أنيقة في أحدث جلسة تصوير لها| صور    محمد سلماوي: صومعتي تمنحني هدوءا يساعدني على الكتابة    الداخلية ترسم البسمة على وجوه الأيتام احتفالا بعيد الأضحى| فيديو    الأحوال المدنية: استمرار عمل القوافل الخدمية المتنقلة بالمحافظات| صور    لبنان.. حريق في منطقة البداوي بطرابلس يلتهم 4 حافلات    الصناعة: حجز 1800 قطعة أرض في 20 محافظة إلكترونيا متاح حتى منتصف يونيو    عيد الأضحى 2025.. ما حكم اشتراك المضحي مع صاحب العقيقة في ذبيحة واحدة؟    البابا تواضروس الثاني يعيّن الأنبا ريويس أسقفًا عامًا لإيبارشية ملبورن    تعرف على الإجازات الرسمية المتبقية فى مصر حتى نهاية عام 2025    12 عرضا في قنا مجانا.. قصور الثقافة تطلق عروضها المسرحية بجنوب الصعيد    المالية: صرف المرتبات للعاملين بالدولة 18 يونيو المقبل    البحيرة.. عيادة متنقلة أمام النادي الاجتماعي بدمنهور لتقديم خدماتها المجانية خلال العيد    شعبة الدواجن تعلن هبوط أسعار الفراخ البيضاء 25% وتؤكد انخفاض الهالك    وزير الزراعة يتابع أعمال لجان المرور على شوادر وأماكن بيع الأضاحي وجهود توعية المواطنين    العيد أحلى بمراكز الشباب.. فعاليات احتفالية في ثاني أيام عيد الأضحى بالشرقية    إجابات النماذج الاسترشادية للصف الثالث الثانوي 2025.. مادة الكيمياء (فيديو)    معلومات من مصادر غير متوقعة.. حظ برج الدلو اليوم 7 يونيو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار


سينما الكواكب
عرفتها أولا مع الأسرة، صحبنا الوالد إليها، مبني جديد علي أطراف العمران بالدراسة. في ذلك الوقت كان الطريق متربا يمر بمقابر المماليك قبل اتصاله بالعباسية، المبني شيد ليكون سينما، هكذا معظم الدور التي عرفتها حتي السبعينيات قبل أن تصبح جزءا من عمارة. لا أعرف أصحاب البناية، لكنه بدا مغايرا تماما لسينما الفتح وأوليمبيا. ورويال وايديال ورمسيس، أي كل ما عرفته بصحبة الوالد علي حدود القاهرة القديمة وفي قلبها. الفتح في قلب الجمالية، لا تفتح إلا صيفا، لا سقف لها، الكواكب تبدأ عروضها في التاسعة صباحا. تنتهي الثانية عشرة، منتصف الليل، أربع حفلات يوميا، الاخيرة تنتهي عند منتصف الليل، مع المرحلة الاعدادية أصبح ممكنا الذهاب بمفردي، في الحفلة النهارية أو المسائية، غير أنه من الناحية الواقعية كنت أمضي بصحبة دائما، إما أخي أو صاحبي حسن، أنفرد خلال الاسابيع التي تعرض فيها المسلسلات، زورو، فيفا زاباتا، أما ما ترك عندي أثرا وأرسي أساس ما يشغلني حتي الآن فهو فلاش جوردون رجل الفضاء الخارجي وحروبه ضد الغزاة القادمين من كواكب أخري، أري ملامحه وملابسه الخاصة كأنه يجلس أمامي، ليس وحده السبب، لابد أن نشأتي فوق السطح، تحت السماء مباشرة، وذلك التساؤل القديم عن الزمن، أين ذهب ما أنقضي؟، بالتأكيد أسباب متداخلة وربما أخري لا تبين لي ولا أدركها بمحدودية وعيي، منذ البدايات لم أكف، ماتزال تساؤلاتي عينها، لم يضف إليها جديد، الاجوبة مستحيلة، أعني النهائية، ربما يصل البشر إليها يوما، لكنني لن أكون ماثلا، من فوق سطح بيتنا في عطفة باجنيد، درب الطبلاوي، من الرحبة بين بيوت جهينة، من صالة سينما الكواكب شرعت قاصدا كل صوب محاولا تلبية فضولي، تقصي ما يجري، تتبع أخبار الابحاث، هكذا تابعت سبوتنيك وجاجارين وفالنتينا والكلبة لايكا ورحلات أبولو والخطوة الاولي لنيل ارسترونج، عندي ايقاع صوته.
»خطوة صغيرة لكنها كبيرة بالنسبة للبشرية...«
عندما عبر إلي الابدية بعد مشيه فوق القمر وانقضاء ثلاثة وأربعين عاما، أمضيت ساعات في تعقب ما يختص بمراسم وداعه، ما من كتاب أتيح لي إلا وقرأته، ما من معرض في العواصم الكبري إلا وقصدته، عندما طالعت الصور التي التقطها المنظار »هابل« لأعماق الكون السحيقة رأيت تشابها مع صورة لنقطة دم تحت عدسة مجهر، نفس الحركة التي تبدأ من بؤرة وتمضي إلي تشظي، الأحمر غالب، قرأت بحثا عن شكل الكون، استعدت المرات التي طالعت فيها الأفق من نقاط مرتفعة، الدائري مهيمن، غير أنه ليس دائريا بالضبط، أقرب إلي البيضاوي، الرحم المكنون الذي تتخلق فيه الحياة بيضاوي، غرف الدفن التي نصل إليها بعد معاناة عبر المزالق والممرات والدهاليز بيضاوية، لأسباب لا تتضح لي أوقن أن المصريين القدماء أدركوا الأمر، لماذا شيدت كافة غرف الدفن بيضاوية، كذلك التوابيت إلي حدما، بشكل ما أدركوا الحقائق المحيرة، انطوت الاجابات معهم، الكون بيضاوي، الكون كامن في ذرة لا تري إلا بصعوبة، أيهما الأصل، المحيط أم القطرة؟، الكون فكرة غير أن دار سينما الكواكب ما تزال قائمة لكنها أصبحت خرابة، المكان الذي حلقت منه إلي أطراف المجرة وشجيت لعيني ليلي وسجدت لشفتيها وصحت من داخلي: فيفا زاباتا، قبل سنوات عديدة من اطلاعي علي سيرته وإدراكي أنه ثوري وزعيم حركي وملهم، المكان الذي لمست داخله أول فرج - ولهذا تفصيل أورده فيما بعد - أصبح مهجورا، خربا، لا أعرف ماذا جري؟، هل اختلف الورثة؟، هل توفي آخر الملاك، المبني الذي ضج بالحياة لسنوات طويلة واعتبر من معالم الحي أغلق بأبواب حديدية مشدودة إلي بعضها بالجنازير، شيئا فشيئا تتراكم عليه الاتربة وتتكسر الالواح التي تسد النوافذ، خشبية وزجاجية، هذه المساحة من الصمت والخراب محيرة، تماما مثل مبني آخر أمت إليه ويتصل بي، أعني مدرسة عبدالرحمن كتخدا، المغلقة منذ أربعين عاما وربما أكثر، عرفت مثل هذه المباني، ليس في الجمالية فقط إنما في مدن عديدة نزلتها وأقمت ببعضها مددا تتراوح من أيام إلي شهور، لكن تلك المتعلقة بي يؤلمني زوالها ويوجعني مآلها، خاصة مازال منها مع استمراري ساعيا وباحثا عما مضي تماما، دانيا إلي ما لن أدركه ولن أناله قط، ومن ذلك هذا البيت الذي قام لعشرات السنين ولم يعد..
واحد، عطفة باجنيد
ثمة بيت، لكنه ليس هو، ليس المدخل، مطلع السلم، الباب الخشبي القديم ذو الضلفتين المعلق فوقه تمساح محنط كان من نقاط تحولي ومآلي، ماتزال الحارة تحتفظ بمعظم معالمها عدا بيوت العطفة التي أزيلت تماما وشيد مكانها أخري، عدة مرات مضيت توقفت، جلت بالبصر متأملا، شرعت غير أنني نكصت، لم أتم ما جئت من أجله قط، أن أصعد إلي السطح، المساحة لم تزد ولم تنقص، أيضا الارتفاع، الطوابق زادت واحدا، في السابق خمسة، أري الآن ستة، أستعيد حجرة الاستقبال بالطابق الاول، البيت كله عند أحمد عمرو، الرجال في ناحية، النساء في الصالة مع الست وجيدة، سيدة البيت وثريا خضراء العينين، في صدارة الغرفة عالية السقف، مذياع ينبعث من مقدمته ضوء، مصباح صغير بفضله تتضح أسماء المحطات حيث يتحرك المؤشر، غير أن الحاج أحمد يثبته علي الاذاعة البريطانية، إنها الأدق، كنت في الثالثة، موقن أن الرجل أخنف الصوت، واضح النبر يجلس داخل هذا الصندوق. أمضيت زمنا ليس بالقليل موقن بذلك، غير أنني لا أعي كيف أحطت علما بوجوده هناك في لندن، وأن هذا الصندوق ليس إلا مجموعة اسلاك وصمامات، عندما يحل بناء مكان آخر فإن حيوات تختفي وصور تفقد وأحاسيس ترجف، ينتقل القديم من الواقع الملموس إلي الذاكرة، يصبح له صور عديدة طبقا لمن يستعيد، يتفرق عليهم، بالنسبة لي، كان مستقري وبداية خطواتي الي الحيوات التي سعيت إلي التعرف عليها وكل ما يمت إليّ، السطح معلم واضح، مع بدء إتقاني التوازن والمشي خرجت إليه بصحبة أمي التي تنزف حنينها إلي جهينة حيث الأم والرحبة وصومعة الغلال ومخزن الحبوب التي يتاجر فيها شقيقها، والصومعة حيث القمح وحبات الدوم، والفرن، أرغفة الخبز الشمسي، وأوعية الطبيخ من الفخار، والشاعر الذي يتوقف امام البيت، يعزف علي الربابة أنغاماً ثم قصائد قصيرة تحوي أسماء من يسكنون البيت بعدها تفتح الباب بالورب، تمد يدها بما يتوفر، قدح قمح أو ذرة، أو أرغفة، أو أصابع فايش، مفردات تستعيدها في أحاديثها ومناجاتها، غير أن الاساس في الموضوع أمها، جدتي عائشة، هذا السطح أوردته مرات وتوقفت عنده كثيرا غير أنني لم أتحدث عن دوره في سعيي واتجاهي إلي الاكتمال، أقدم ما يمت إليه أشرت إليه، خروجنا ليلا قاصدين الطابق الاول، غارة جوية، فيما بعد يقدر لي معرفة أنها الوحيدة التي شنها سلاح الجو الاسرائيلي عام ثمانية وأربعين، عرفت تقلب الفصول، لم أنتبه إلي مرور الزمن السهمي إلا مع اكتمال الوعي، فقط، كنت أطرح الاسئلة ومازلت، ما تغير فقط الصيغ والأبعاد المتضمنة، بدأت الطواف به وكنت لا أري ما وراء السور إلا إذا حملني أبي، أمي لم تقدم قط، كانت تقول إنها بمجرد اقترابها يدركها دوار، تخشي الهو، ترهبه، فهل ستقف علي مشارفه حاملة أول من يعيش لها وبها؟، ها هو الوالد ينظر إلي الدخان الكثيف الذي تبدو منه ألسنة النيران، قرب عمارة غمرة، أماكن عديدة متفرقة عند الأفق الغربي، يقول إن هذه النيران عند عمارة الايموبليا، يحملني محاذيا صدره.
حريق القاهرة
ما بقي عندي منه تلك النيران، هذا الإفق، أما الطائرات المتجهة إلي الشرق، مدنية أو عسكرية فلم تتوقف قط. علي ارتفاع منخفض يوم الثورة، وفي أيام الذكري، أما النجوم التي تفد بعد تماما غياب الشمس فمما يحركني حتي الآن، ذلك الفراغ، لم يكن التلوث قد أدركنا بعد، سماء المدينة صافية نهارا، شفافة مع العتمة، نجومها بادية وضباب المجرة التي نتمني إليه، درب التبانة، عرفت اسمها فيما بعد، ربما بعد بلوغي الثامنة، أو التاسعة، ليس أكثر، اعتدت الخروج ليلا والتحديق إلي أعلي، كانت سماء المدينة أوضح وأجلي من سماوات الصحاري التي مشيت عبرها أو البحار التي خضت لججها فوق قطع بحرية، لم أعرف هذا العدد من النجوم والنيازك الوافدة المحترقة عبر الغلاف الجوي إلا من فوق سطحنا، أرتفع بمخيلتي، أمضي عبر الفراغ الذي لا يحده حد، ربما كان ذلك أول إدراك مبكر للمكان وأنه مثل الزمان لا يمكن لمسه أو تعيينه أو تحديد وجهاته، أري نفسي مرتفعا، سالكا الهو إلي حيث لا تحديد ولا تعيين، أطيل التحديق منفردا حتي أدرك الحجب وأصغي إلي أنغام صادرة عن فراغ، لا آلات تعزفها، لا أوتار تصدرها، هذا ما لم أصرح به من قبل، حتي للأقربين، يبدو أن أمي أدركها قلق لطول وقفتي واستمرار تسديدي، سمعتها تهمس لأبي بذلك، يجيبها مؤكدا إن عقل الولد أكبر من سنه، فتقول إنها تخاف مصير الحاج محمد أحمد، عرفته، كان نحيلا، طويلا، عمامته عالية، شاربه أبيض، بعد شقاء طويل فارقه الابناء الثلاثة إلي ساحل أثر النبي، نجحوا في تجارتهم وكفوه الهم فتفرغ لهوايته الغزل، يخرج صباحا وبعد الغروب، يجلس أمام البيت، يداه لا تفارقان المغزل، يحول الصوف الهائش الملفوف حول بكرة من خشب مثل القمح إلي خيوط قوية متينة يسلمها للمقدس فخري النساج، يأتيه بالثوب المنسوج مفصلا، منسجما علي جسمه، عنده مقاسه، يقيه برد يناير القارس، الصعب، يقعد ساعات مقمعزا ، يقوم فاردا طوله، يمشي سهلا، لينا، كأنه لم ينثن، في العام الأخير، خلال إجازة الصيف سمعت ما جعلها ترجف وتستعيذ بالرحمن الرحيم، إذ كثر خروج الحاج محمد أحمد إلي الحماد، المساحة الممتدة في الخلاء بحري الربع المسكون، هناك الساقية وعلي مقربة ماكينة الطحين التي تصدر الصوت الذي يرجفني مجرد استعادته.
يوغل الحاج محمد داخل الزروعات، يقعمز، يتخذ جلسته الصعبة، ليس من أجل الغزل، لكن.. تحديقا في السماء، يؤكد البعض أنهم مروا بالقرب منه، سمعوه يتحدث لهجة غريبة، حروفها متداخلة وعندما اقتربوا رأوه يتجه بكليته إلي النجوم القصية، ينطق هادئا وأحيانا ينفعل كأنه علي وشك دخول مشاجرة، استمر علي هذا الحال سنوات إلي أن حلت تلك الليلة، طال غيابه، خرج الابناء والاقارب فجرا، غير أنهم لم يعثروا له علي أثر، النهايات الغامضة جالبة لتعدد الروايات وأختلافها، قال محمود العامل المقيم في ماكينة الطحين إنه أصغي إليه، يخفت ويعلو صوته محاورا شخصا ما، لم يكن يتحدث إلي نفسه، المؤكد أنه يحاور شخصا ما، رغم المسافة إلا أنه أصغي، آخر حديثهما كان هادئا، راح يخفت شيئا فشيئا حتي غاب تماما، أما شيخ الغفر فأكد أنه رأي الرجل يصعد الفراغ مرتقيا سلما غير مرئي تجاوز جريد النخل ومغزله بيديه، جمد مكانه كأنه أيدي أوقفته، منعته عن التقدم.
الجرف الكبير
كنت أصغي خائفا من مصير مشابه، عندي في نفس الوقت رغبة أن أتبعه، عندما وصلت دورية الصاعقة التي صحبتها إلي صميم بحر الرمال الأعظم شرق الجرف الكبير، أمر الضابط المسئول بالتوقف إلي حين، صباح اليوم التالي بدأ تحقيقا، الرقيب سيد أبو اليزيد من المحمودية محافظة البحيرة، المجند بوحدات الصاعقة كان يلازم الخط غير المرئي الذي أمر الضابط بألا يتجاوزه أي فرد، كان يرقب الليل، نوبته تنتهي فجرا، آخر من رآه بدوي من دشنا، قال إنه ظن مضيه لقضاء الحاجة، مشي ممسكا غطاء الرأس، تاركا سلاحه والحقيبة الحاوية لما يحتاج إليه انسان مفرد في صحراء لم يطأ رمالها مخلوق حي كما تنبئ الشواهد، فشلت كل الجهود في التوصل حتي إلي أثر منه، زمن الحرب ايضا، شق طريق يخترق الصحراء الشرقية بعد بلدة الكريمات، ينتهي في الزعفرانة، الآن بعد أكثر من أربعين عاما أصبح أعرض وأيسر، أعد للسياحة والحركة الغزيرة، إلا أن ذلك انقطع بعد تقلقل الاحوال عقب صيرورة الامور إلي الإخوان والسلفيين ومن والاهما، في ذلك الزمن البعيد لم يمر به إلا مركبات الجيش ومن لديه تصريح خاص، كنت أزور دير الانبا بولا، والانبا انطونيوس، أستعيد رحلة كل منهما منذ خروجهما من الوادي مشيا إلي أن وصل كلاهما إلي هذا الوضع الذي أنزل علي سكنية مصفاة واحتواني مودعاً عندي أثراً مازال ثمة مواضع أرجفت روحي، أخذتني عني وبعض لم يرد إليّ حتي وقت تدويني هذا لعلي موردها يوما، عندما أخبرت قداسة البابا شنودة الثالث بلقائي الراهب السائح في الصحراء القريبة من المنيا وأعتذاره عن ركوب السيارة، قال إنه لا يستطيع، وهب نفسه لتجوال سيرا علي قدميه، قال إنه يوجد سبعة في عمق البراري، كل في جهة هو موليها وأنه لا يعرف مواضعهم، ربما يرجع من يوفي، وربما يمضي ما تبقي له سائحا، غير أن كليهما - من يعود ومن يمضي - يترك أثرا لدينا، نتعلم ممن حضر، وممن غاب، في الأقصر، في الممر الجبلي ما يلي مقبرة أي حيث القرود تهلل مع مطلع الشمس، تبدي سرورها للعودة مرة اخري، أمضيت ليلة مع مفتش للآثار يأوي إلي استراحة بسيطة، كنا ثلاثة، تصحبني بنية فرنسية تعلقت بي وسافرت للقائي وبذلت جهدا، أبقيت امرها خفيا لم أبح به حتي الآن لا سرا ولا علنا، لم يصدر عن معرفتي بها أي اشارة ويبدو انني بدأت يقيني أنني لن أراه ولن أطالع ملامحها ولكم كانت رقيقة النسب، رقراقة، عرفت منها ما لم أعرفه منهن أجمعين، أمسك فلا أذكر إلا صمتها في جلستنا، صخور تحفنا، ما من أحد، فجأة قامت، بدأت المشي في الممر، عندما أمعنت هب صاحبي منذرا، راح يعدو خلفها، عندما رجع ممسكا بذراعها، نفضته غاضبة، قال إنه لم يخش عليها العقارب اللابدة تحت الأحجار علي جانبي الممر، أو القطط المتوحشة، إنما خشي عليها السرحة، في لحظة معينة يأخذ الفراغ الأصم المرء إلي حيث لا هدف ولا علامة، كم من رجال ونساء فقدوا في الدروب، خشي عليها جذبة الليل، الغريب ان ضابط الصاعقة أطلعني علي ما يشبه ذلك، من خبرات أدلة الصحراء هذا الحال المفاجئ الذي يواتي البعض في الفراغ، عند مطالعة الهو، يبدو أنها كانت ملمة بذلك، أبدت الخشية من مكثي ساعات طويلة عند السور متطلعا إلي الليل، إلي الفراغ غير المحدود، متخيلا سعيي إلي كل اتجاه، كانت أوقات الصمت التي تمتد بيننا دانية من تلك المسافات المجهولة، لكن ثمة تناغما بيننا لم أعرف مثيلا له إلا ابنتي التي أكاد أدركه عندها، لكنها حادت بحياتها إلي هناك فقل اجتماعنا واتصالنا لهذا أنين خفي وترحال لا يبين.
الداية
من فوق السطح القديم رأيت بزوغ قرص الشمس من وراء صخور المقطم، غروبها فيما يلي الاهرام التي كان ممكنا رؤيتها بوضوح جلي، كان الافق واضحا والفراغ مفرودا، اجري واتوقف فجأة، اتمني لو اتسع الفضاء لخطوي، أن استمر قاصدا كل اتجاه، أتطلع إلي أمي، بجوارها زهرة المحمل، أو زهرة زوزو، وصفيحة الماء الساخن، وموقد ماركة بريموس الذي رافقها حتي آخر السيتينات تقريبا عندما اشتري أبي بالتقسيط بوتاجاز من صناعة المصانع الحربية، عينان كبيرتان، أخري صغيرة، فرن يتسع لصينية واحدة، يمكنها تسوية الكنافة التي عرفت بها، ولم أتذوق مثيلا لها بعد رحيلها، كانت تمسك حافة الصينية بقطعة قماش وتقلبها علي موقد البريموس، تبذل جهدا، الآن، حتي كعك العيد والبسكويت والغريبة يمكن تسويتهما هنا، تختلف رائحة الغسيل المنشور صيفا عن الشتاء، عندما أدركت أنه المخاض قالت.
»اجري أنده الست أم حليمة...«
قطعت الطوابق الخمسة من أعلي إلي أسفل في ثوان، مدركاً لحساسية الأمر، لحسن حظنا كانت أم حليمة في البيت، إنها الداية، ليس للدرب فقط، إنما للناحية، لقصر الشوق كلها، أكاد أري خطوها البطيء، إنها البلانة أيضا التي تعد العروس للدخلة، ما تعرفه لا يتقنه غيرها، أخيرا.. عندما وصلت إلي السطح طلبت من أمي ان تتحامل، أن تنتقل إلي الداخل، وضعت الصفيحة فوق البريموس، أشارت إليّ، أن ألزم السطح، فقط دقائق واستمعت إلي صرخة شقيقتي التي أوصي أبي بتسميتها »نوال«، يحفظ عن ظهر قلب أغنية محمد عبدالوهاب. »يا نوال فين عيونك..« بل كان يحفظ فيلم »دموع الحب« عن ظهر قلب، يتلو الحوار والمواقف من الذاكرة، يحدث ذلك في أوقات الصفو، نجلس مصغين إليه، أمي ، إسماعيل شقيقي محمد الذي لم تشرق عليه شمس يوم الجمعة، ثلاثة بدأوا الطريق إلي الصمت الأبدي من فوق هذا السطوح، لم أر اثنين منهما، خلف وكمال، أما محمد فأعي حضوره كأنه أمامي، راح ابن عامين، لم ينقطع أبي عن زيارتهم في المواسم والاعياد وطلعة رجب، يقول : »أنا رايح للاولاد...«
معقول أن تبذري هذا كله؟
حتي لو صعدت إلي السطح، وجدته سطحا لم يزل فماذا ألاقيه مما يمثل عندي، استدرت منصرفا، لم أعد إلي الدرب منذ ذلك الحين، أمر بمدخله ولا ألجه، غير أن تغيرا طرأ علي منذ حملني خطوي بعيدا، انتبهت إلي تغير إيقاع مشيي، إلي تمهلي، إلي تباطؤ أنفاسي، فأيقنت أنني صرت إلي اولئك المتقدمين عني لكم طالعتهم وظننت أنني غير بالغ أحوالهم وها أنا أدنو موغلا في حال الصمت والانقطاع، ماضيا إليّ، وقد كنت مقدما، لا أتواني ولا أتمهل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.