نائب وزير المالية للبوابة نيوز: دمج المراجعتين الخامسة والسادسة من البرنامج المصرى مع "النقد الدولي"غير مقلق    روسيا: اعتراض 13 مسيرة أوكرانية أُطلقت نحو موسكو    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 19 يوليو 2025    بعد التوقف الدولي.. حسام حسن ينتظر استئناف تصفيات أفريقيا المؤهلة لكأس العالم    أنغام تغني «أشكي لمين» وتوجه رسالة لمحمد منير بمهرجان العلمين    زينة.. عام سينمائي غير مسبوق    «مرض عمه يشعل معسكر الزمالك».. أحمد فتوح يظهر «متخفيًا» في حفل راغب علامة رفقة إمام عاشور (فيديو)    موعد إعلان نتيجة الثانوية الأزهرية 2025 برقم الجلوس في الشرقية فور اعتمادها (رابط الاستعلام)    سوريا.. اتفاق بين الحكومة ووجهاء السويداء يضمن دخول قوات الأمن العام وحل الفصائل المسلحة    بكام طن الشعير؟.. أسعار الأرز «رفيع وعريض الحبة» اليوم السبت 19 -7-2025 ب أسواق الشرقية    زوج البلوجر هدير عبد الرازق: «ضربتها علشان بتشرب مخدرات»    إصابة 4 أشخاص في تصادم سيارتين بطريق نوي شبين القناطر بالقليوبية    حضور الخطيب وظهور الصفقات الجديدة.. 15 صورة لأبرز لقطات مران الأهلي الأول تونس    هدنة 72 ساعة.. بيان مهم بشأن حالة الطقس وموعد انخفاض درجات الحرارة    أول ظهور ل رزان مغربي بعد حادث سقوط السقف عليها.. ورسالة مؤثرة من مدير أعمالها    35 عرضًًا تتنافس في الدورة ال 18 للمهرجان القومي    الحرف التراثية ودورها في الحفاظ على الهوية المصرية ضمن فعاليات ثقافية بسوهاج    «شعب لا يُشترى ولا يُزيّف».. معلق فلسطيني يدعم موقف الأهلي ضد وسام أبوعلي    ترامب يتوقع إنهاء حرب غزة ويعلن تدمير القدرات النووية الإيرانية    عيار 21 يترقب مفاجآت.. أسعار الذهب والسبائك اليوم في الصاغة وتوقعات بارتفاعات كبيرة    استعلم عن نتيجة تنسيق رياض الأطفال ب الجيزة 2025.. الرابط الرسمي والمستندات المطلوبة    تنسيق الثانوية العامة 2025 الجيزة للناجحين في الشهادة الإعدادية (رابط التقديم)    مستقبل وطن بسوهاج يطلق خطة دعم مرشحيه لمجلس الشيوخ ب9 مؤتمرات    كل ما تريد معرفته عن مهرجان «كلاسيك أوبن إير» ببرلين    مصدر أمني يكشف حقيقة سرقة الأسوار الحديدية من أعلى «الدائري» بالجيزة    رئيس حكومة لبنان: نعمل على حماية بلدنا من الانجرار لأي مغامرة جديدة    عميد طب جامعة أسيوط: لم نتوصل لتشخيص الحالة المرضية لوالد «أطفال دلجا»    مطران نقادة يلقي عظة روحية في العيد الثالث للابس الروح (فيدىو)    كيف تضمن معاشا إضافيا بعد سن التقاعد    بشكل مفاجئ، الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يحذف البيان الخاص بوسام أبو علي    "صديق رونالدو".. النصر يعلن تعيين خوسيه سيميدو رئيسا تنفيذيا لشركة الكرة    ستوري نجوم كرة القدم.. ناصر منسي يتذكر هدفه الحاسم بالأهلي.. وظهور صفقة الزمالك الجديدة    تحت شعار كامل العدد، التهامي وفتحي سلامة يفتتحان المهرجان الصيفي بالأوبرا (صور)    من المستشفى إلى المسرح، حسام حبيب يتحدى الإصابة ويغني بالعكاز في موسم جدة 2025 (فيديو)    تطورات جديدة في واقعة "بائع العسلية" بالمحلة، حجز والد الطفل لهذا السبب    الكرملين: تسوية الأزمة الأوكرانية وتطبيع العلاقات بين موسكو وواشنطن موضوعان مختلفان    داعية إسلامي يهاجم أحمد كريمة بسبب «الرقية الشرعية» (فيديو)    مصرع طفلة غرقًا في مصرف زراعي بقرية بني صالح في الفيوم    انتهت.. عبده يحيى مهاجم غزل المحلة ينتقل لصفوف سموخة على سبيل الإعاراة    «زي النهارده».. وفاة اللواء عمر سليمان 19 يوليو 2012    5 أبراج على موعد مع فرص مهنية مميزة: مجتهدون يجذبون اهتمام مدرائهم وأفكارهم غير تقليدية    انتشال جثة شاب غرق في مياه الرياح التوفيقي بطوخ    أحمد كريمة عن العلاج ب الحجامة: «كذب ودجل» (فيديو)    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية ببداية الأسبوع السبت 19 يوليو 2025    تعاني من الأرق؟ هذه التمارين قد تكون مفتاح نومك الهادئ    أبرزها الزنجبيل.. 5 طرق طبيعية لعلاج الصداع النصفي    ب37.6 ألف ميجاوات.. الشبكة الموحدة للكهرباء تحقق أقصى ارتفاع في الأحمال هذ العام    "الدنيا مريحة" .. أسعار السيارات المستعملة مستمرة في الانخفاض| شاهد    "القومي للمرأة" يستقبل وفدًا من اتحاد "بشبابها" التابع لوزارة الشباب والرياضة    الحوثيون يعلنون استهداف مطار بن جوريون بصاروخ باليستي فرط صوتي    ما حكم رفع اليدين بالدعاء أثناء خطبة الجمعة؟.. الإفتاء توضح    وزير الخارجية اللبنانى لنظيره الأيرلندى: نطلب دعم بلدكم لتجديد "اليونيفيل"    خبير اقتصادي: رسوم ترامب تهدد سلاسل الإمداد العالمية وتفاقم أزمة الديون    كسر بماسورة مياه الشرب في شبرا الخيمة.. والمحافظة: عودة ضخ بشكل طبيعي    5 طرق فعالة للتغلب على الكسل واستعادة نشاطك اليومي    أصيب بنفس الأعراض.. نقل والد الأشقاء الخمسة المتوفين بالمنيا إلى المستشفى    عبد السند يمامة عن استشهاده بآية قرآنية: قصدت من «وفدا» الدعاء.. وهذا سبب هجوم الإخوان ضدي    هل مساعدة الزوجة لزوجها ماليا تعتبر صدقة؟.. أمين الفتوى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الآخبار
تلك العيون.. العيون
نشر في الأخبار يوم 15 - 05 - 2012


جمال الغيطانى
بقدر تعلقي بها أثناء سعيها، قدر تعلقي بها بعد انقضائها المباغت
إلي اليسار المتجه صوب حارة الوطاويط يقع أحد مصادر البهجة في زمني الأول، إنه العسال.
لا أعرفه، لا أعلم شيئاً عنه، لا أعرف حتي أين مسكنه وإن سمعت فيما بعد أنه مقيم بالعباسية، تبادر إلي ذهني تساؤل، ما علاقته بالجمالية إذن؟، كيف يجيء هذه المسافة ويعود بعد وقوفه في الدكان طوال اليوم؟ ربما كان ينتمي إلي أسرة تقيم منذ زمن وانتقلت، بقي الدكان، احتمالات عديدة غير أنني لم أنطق استفساراً كأني أفضل إبقاءه في منطقة الغموض بعيداً عن أي كشف.
نحيل، جلد علي عظم. أنفه بارز، نظارته إطارها من المعدن، كأنه سلك، أذناه بارزتان، لا أستعيده إلا واقفاً خلف الفاترينة، منحنياً إلي الأمام كأنه يهم بفحص شيء ما، لا أتوقف عنده إلا أول أيام العيد، ليس في الواجهة طوال أيام السنة ما يلفت النظر، إنه محل خردوات، مساحته محدودة، ما يميزه عن المحلات الأخري ترتيب الأشياء فيه، علب السجائر، بعضها صغير الحجم، يباع بالعلبة، أصناف لم تعد متداولة وقت هذا التدوين، هوليود، وينجز، ماتوسيان، بلمونت، البستاني، لكل منها حجم وطول مغاير، علب أخري أكبر حجماً تحوي كل منها مئة وتلك تباع فرط، بالواحدة، العلب الفارغة أحصل عليها منه بعد شراء الأقلام أو الكراسات، أو ما أرسلني أبي لإحضاره، كنت أحتفظ بها، وفي ساعات اللعب فوق السلم أرتبها مع عزة وكاميليا.
ومرات تجيء علية.
الشريكة: تعال نعمل زي بابا وماما، أكثرهن جرأة علية وقد ذكرتها مراراً من قبل، من الدكان سرت إليّ رائحة الدخان التي تشبعت بها العلب الفارغة، رائحة الدخان المتبقية تلك صارت مرجعاً منه القياس، بعد أن عرفت تدخين النرجيلة وأنواعاً شتي من السيجار، كلما دنا التوباكو من حاسة شمي، أستعيد تلك الصناديق الفارغة، غير أنها لم تكن من مصادر بهجتي، تتجدد تلك الانشراحة مع قدوم العيد، عند الناصية، أثناء خروجنا ساعين إلي مسجد سيدنا الحسين، أترقب المرور أمام العسال، الساعة مبكرة ما بين الخامسة والسادسة، الضوء واهن، طلوع النهار لم يكتمل بعد.
الواجهة تتلألأ، مصابيح صغيرة ملونة تتخلل البالونات، العرائس مفتوحة العيون، غزيرة الرموش، فوق سطح الفاترينة وداخلها تصطف اللعب، عربات صغيرة بعضها يشبه ما أراه في الشوارع عند مصاحبة الوالد، خاصة عربات الأجرة موحدة الطراز، منها ما يتوقف في الطريق لعطل ما، ينزل السائق بعصا حديدية علي هيئة زاوية قائمة، يدخلها في فتحة بالمقدمة، يديرها بقوة، يندلع صوت المحرك، العصا اسمها »مانافيللا« أحياناً تُشهر في العراك، لكنها للتهويش، فلم أرها تنزل علي جسد قط.
لعب مصفوفة، علب حلوي مغطاة بورق شفاف، هذا الحيز الضيق الذي يتحرك فيه بحذر، يصبح مصدراً لبهجة لم أعرفها من قبل، أو من بعد، لا أعرف مصدرها بالضبط، يحمل قدوم العيد فرحاً ناتجا عن كسر المألوف، استثنائية تخصه، أغفو ورائحة الملابس الجديدة تغمرني، القميص والبنطلون والحذاء، تقليد لم يقصر ولم يحد عنه أبي، يصحبنا إلي محل محمد حسنين، يعمل فيه والد سعاد التي سأتعلق بها فيما بعد، سأحب والدها طيب الوجه وسأشفق عليه عندما يصاب بشلل أقعده. الأحذية من محل قريب يقع إلي جوار فندق رضوان الذي يجلس أمامه باستمرار عبدالرسول الهندي، ذروة البهجة بعد عودتنا من الصلاة ورؤية جمال عبدالناصر، الجلوس حول الطبلية، الكعك والشاي باللبن في العيد الصغير، الفتة باللحم في الكبير، لكعك العيد فرادة بين جميع أنواع الحلوي، لا يكتسبها إلا أيام العيد، لو اقتربت منه بعد انقضائه لوجدته مغايراً، مختلفاً في المذاق، تماماً مثل الكنافة، لو تذوقتها في غير رمضان لوجدت شيئاً آخر لا صلة له بما اعتدته، ليتني أعرف قوانين الأشياء قبل التمام!
قرب الضبابية يسكن فخري غورس، يرتدي الجلباب البلدي مثل خالي وأقارب أبي، لكنه قبطي، مختلف، لماذا هو مختلف؟، لا أعرف، عندما أصحب الوالد لتهنئته بالعيد، أعياد أخري، سبت النور، أحد السعف، انتهاء العيد الكبير، القيامة، أري كنبة، يجلس عليها أبي والمعلم فخري إلي جوار بعضهما يتحدثان عن أشخاص غائبين، لا حضور لهم، لا يجتمع اثنان إلا ويستحضران أفراداً لم أرهم قط، لا أعرفهم، مرة أستعيد من تحدث معهم أبي، وفي أحوال أخري أسترجع من ورد ذكرهم، غير أن ما يلوح لي دائماً من زيارات فخري غورس، رائحة الثوم الذي كان يتاجر فيه وطبق الكعك، كعك مماثل تماماً لما تخبزه أمي، النقوش والسكر الناعم الذي يغطي السطح، المذاق من نفس المكونات، فيم الاختلاف إذن، لم أدخل ديراً أو بيتا صاحبه قبطي أو كنيسة إلا ويخطر عندي ذلك الطبق الذي وضعه برفق المعلم ذات صباح حليبي الضوء لم أعد أحتفظ باسمه، لكنني أعي وضعيتي جيداً في مواجهة الكعك المرصوص.
لدكان العسال رائحة خاصة، يغلب عليها الحلوي رغم أنواع السجائر، ملبن سادة، ملبن بالمكسرات، لكنني أتوقف عند ثلاث، نوجا وكاراميللا وفوندام، الأخير ألوانه متعددة يغلب عليها الأبيض والأحمر والأصفر، ملمسه خشن غير أنه يذوب بمجرد وضعه في الفم، انطوت المراحل وذات يوم صرت إلي صحبة صاحب حميم مقيم في باريس، توقف أمام محل حلويات قديم، يعرض مباهج شتي، أتجه إلي قسم من المعروض، فوجئت بلافتة عليها »الفوندام..«، الحروف فرنسية غير انه نفس النطق عند وقوفي طفلاً أمام دكان العسال، فوندام، غير أنني لم أضعه في فمي، ولا أظن، من الأسماء التي ارتبطت عندي بالحلوي المصنعة »الرشيدي« ويبدو أنه قديم، تخصص في الحلوي الطحينية، شكل علبته المصنوعة من المعدن حاضر عندي دائماً، دائرية، تزن نصف كيلو أو كيلو، عندما تبدو علامات الجوع أخرج من الحقيبة ما أعدته أمي، نصف رغيف محشو جبن أبيض استانبولي، حادق في غير زيادة، النصف الآخر محشو حلاوة طحينية، مع الزمن صارت العلامة جزءاً من المذاق، الميزان واسم الرشيدي المكتوب بالنسخ، جبنة بيضاء وحلاوة، إنها الوجبة الأمثل، مع إقلالي من كل ما يحتوي علي سكر تباعد المذاق، غير أنني أعود إليه خلسة، أشطف من العلبة التي اشترتها ماجدة ربما بدافع الحنين أيضاً شطفة رقيقة، أتذوقها وسرعان ما أكف، أحياناً يسلك السائق طريقاً مغايراً، ندخل من القلعة إلي ابن طولون، قبل وصولنا ميدان السيدة زينب أتطلع إلي أعلي، إلي الشعار، إلي العلامة، إلي الميزان المعلق رسمه أعلي المصنع، أراه فأحن وأستعيد إصباحاً وخَرجات إلي رحلات خلوية، ولحظات ارتواء بمذاق أرتضيه، لا أعرف الرشيدي، ولم يعرف هو ولا ورثته ما ترسخ عندي بسبب الحلوي التي تفننوا في عملها، ولم يصمد أمامها أي اسم آخر من عين النوع، حتي إنني عندما نزلت استانبول ومشيت متفرجاً علي السوق المصري المغطي، لفت نظري أنواع من الحلوي الطحينية، منها المرصع باللوز، والمحشو بالفستق أو الذبيب، ونوع آخر يميل لونه إلي اخضرار، غير أنني لم أجد دافعاً للتذوق أو التعرف، يكفيني حلوي الرشيدي الموسومة بالميزان فكأنها المصدر كله، رغم عدم يقيني بمصريتها، واحتمال معرفتها عن طريق الأتراك، أما رمضان حافظ فارتبط عندي باللوز المصنوع من السكر، والترمس الملون، معرضه يقدم في الواجهة أنواعاً من الفاكهة لكنها من السكر، بعد أكثر من نصف قرن التقيت بسيدة وقورة، جمالها متزن، هادئ، قالت إنها من القاهرة القديمة متلي، كانت تجلس وراء مكتب فسيح فوقه حاسب متطور، نائبة مدير البنك، عندما قالت إنها ابنة رمضان حافظ أضاءت نهارات وانبعثت مواقد وحنّ مذاقي إلي أنواع مفتقدة، لحيظات من بهجة مستعادة، أصغيت متأسياً إلي مشاكل تعرض لها والدها، عمال أضربوا، هددوا بحرق المصنع، اضطر إلي إغلاقه، إلي التوقف، لكنه عندي مازال، ما أنتجه رأيته عند العسال، في واجهة معرضه الذي يحمل اسمه في السكة الجديدة قرب محل البلبيسي المتخصص في العطور المواجه للسرجاني تاجر الذهب الشهير، أمي رهنت عنده الكردان الذهبي عيار أربعة وعشرين وكانت تتمني لو أنها ورّثته لأختي، فتحت عيني عليه، لا أعرف كيف صار إليها؟، من جدتي أو اشتراه أبي في وقت يُسر، لم أسألها إذ كان جزءاً منها، تحتفظ به في السحارة، تتأمله ساعات الصفو، ترتديه عندما نخرج في زيارة إلي الأقربين أو ذوي الشأن، كان عزيزاً عليها، غير أنها ألحت حتي يقبل أبي بيعه، رضي برهنه علي أمل تحسن الأحوال واسترداده، لكن الأمور مضت إلي الأصعب، من الأمور التي حيرتني لفترة طلبها مصاحبة أبي يوم الاتفاق علي البيع، ظلت صامتة، مستسلمة، نظرها لم يفارقه حتي تواري داخل الخزانة الحديدية الضخمة، ها هي تجلس متطلعة وادعة.
السرجاني، زهرة زوزو، المجمل، أوتوبيسات فؤاد درويش، الطرابلسي، أبو رجيلة، محل أحمد حلاوة للملابس، داود عدس، خار المبو للعصائر، ممر الكونتيننتال، الطرابيشي، أجزاخانة روقية، عوف للأقمشة، الأهرام، المصري، الدهان، الكلوب المصري، حنفي الحلاق في ميدان بيت القاضي، الحاج الصاوي، الشيخ تهامي، حبيب البقال..
أسماء يثير استدعاؤها الحنين والتطلعات المبهمة، أعدل من وضعي إذا كنت في جمع، أو أطلق آهة إذا كنت مفرداً، وقد أستسلم منصاعاً إلي هذا الوميض الذي لا يمكن تفسيره.
الزراعي
يصحبنا أبي إلي المتحف الزراعي، المبني مجاور لوزارة الزراعة حيث يعمل، الموظفون والسعاة من صحبه، أتجول به آمناً، أتوقف أمام الفتارين الحاوية للأحجار والحشرات المحنطة والقطن والقمح وسائر الحبوب بشتي أنواعها، أحياناً يقترب مني أحدهم يشرح لي الصورة، أو يذكر شيئاً عن التمثال المعروض، أو الحيوان المتجمد في وقفته، نوعه، أين يوجد، تدرجت علاقتي بالأشياء، في سنيني الأولي، كان العالم كله ناطقاً في مخيلتي، الجدران تتحدث إلي بعضها بعد نومنا، السماء تقبل الأرض عند الأفق وتهمس لها، للتماثيل همومها وأشجانها، الأشخاص الذين يجلسون في عربات اللعب، الترامواي، الحافلات، عربات الأجرة، لكل حياته وأشواقه، هذا ما أتصوره بعد أن أدير الزمبلك وأتابع المركبة الصغيرة التي تجري بمفردها، لكل منا لعبة في العيد، يصحبنا الوالد لشرائها، مازالت رائحة صناديق الكرتون صاحية عندي، مرصوصة في مدخل المتاجر بالموسكي، أحار عند الاختيار، تزوغ عيني من هذه اللعبة إلي تلك، في النهاية أعود إلي البيت محتضناً واحدة، لا يمكنني تحديد السنة التي انتهت فيها هذه العادة، وإن كنت أرجح أنها منتصف الخمسينيات، ربما قبل دخولي المرحلة الإعدادية، حدث في باريس أن دعيت آخر ليلة في أسبوع شاركت في أنشطته إلي منزل إحدي المشرفات علي البرنامج، السيدة الشابة استقبلت المشاركين من جنسيات عديدة في بيتها، زوجها منحدر من أسرة ميسورة الحال، الشقة في بناء قديم راسخ، مطل علي مَعلمين شهيرين، من النافذة في غرفة الاستقبال يمكن رؤية برج إيفل، بدا مغموراً في لون أزرق إشارة إلي علم الاتحاد الأوروبي، اجتماع علي مستوي رفيع في ذكري التأسيس، يمكن أيضاً بنفس النظرة رؤية قبة الانفاليد الذهبية، يقف طفلاها مبتسمين، مرحبين بالقادمين، تأثرت بدرجة ما، فهذه السيدة التي لا تعرفنا جيداً ولا تربطنا بها صلة حميمة فتحت بيتها لمن جاءوا من قارات مختلفة، علي منضدة مستديرة رصت زجاجات من النبيذ، علي أخري فطائر منها المحشو بالخضار، واللحم المفروم، قوالب بعضها مستدير أو مستطيل من الجبن، أنواع شتي، سلة خبز، سقف مرتفع، له ألوان لوحة تعتقت في الظل، بيت لا أعرف عنوانه، لن أعود إليه، هذا شبه مؤكد، بعض ملامحه ستمثل عندي، مررت بمثل هذا مرات لا يمكنني إحصاؤها، من بيت المستعرب الصيني المتقدم في العمر، اسمه ملفت، علق عندي، »صاعد إلي قلب الكون« تلك الترجمة الحرفية للاسم الصيني، بعد تناول العشاء في مطعم متخصص في البط البكيني، صعدنا إلي طابق لا أعرف الآن موقعه، شقة متوسطة المساحة، أشار إلي الصالة، قال إن بيته حتي منتصف الثمانينيات كان أقل مساحة، أساتذة كبار عاش كل منهم مع امرأته وأبنائه في غرفة واحدة، قال إن كاتباً عربياً كبيراً كتب يقول إنه قضي عشر سنوات في الصين لاجئاً، لم يدعه أحد إلي بيته، ضحك صاعد إلي قلب الكون: وهل كان لدي أي منا بيت يمكن فيه استضافة أحد؟. يطل عليّ مدخل بيت في حي المنصور البغدادي، تؤدي إليه حديقة تلي السور المنخفض، صالة استقبال فسيحة تتصدرها من تعرفت بها قبل أن ألقاها، رأيت لوحاتها، ألوانها الشهابية، تتخللها حمرة عميقة منبثقة من عمق أنثي، ملامحها مبهمة، لكنها بادية يخترقها شواظ من ضوء ثاقب، عندما تعرفت إليها خيل إليّ أنها بعيدة جداً، مستحيلة التناول، لم أكن مقداماً، ولست من الذين يتحسسون الثغرات حتي ينفذوا منها، غير أن عينيّ تترجمان ما عندي، خاصة إذا واجهت مثل نافذتيها، لم يكن لهما مِثل، بمفردهما سَعي، ولوحدهما قَصد كأنه مُنبت عما عداه، عندما زرت المتحف العراقي أول مرة عام أربعة وسبعين توقفت طويلاً أمام العيون، النظرات المتجمدة، الشاخصة إلينا من العدم، عيون فسيحة، كل منها بؤرة، العيون المصرية سيالة، سلسالة، هادئة البت، ماضية إلي بعيد، إلي حيث لا يمكن التحديد، أما العيون البابلية فحضورها مستوفز، متجاوز، حاد وفسيح، لم أتوقع أبداً أن أراها ساعية، أستعيدها فلا أري إلا هي، لها ما تحتها وما فوقها وما يحيط بها، تعرفت إليها في بغداد، أين؟ لا أدري، كيف؟ لا أعرف، غطي جمال عينيها علي ما عداه، لم تكن بالطويلة ولا بالقصيرة، في تجسدها مواطن شتي للجمال، يمكن لزوم عنقها، استطالته وشمخته، كذا صدرها الرحب الفضائي، كأنه مُشرع أبداً، غير أنني هجرت هذا كله ولزمت عينيها، إن في المرات العابرة التي رأيتها فيها أو خلال استرجاعي لهما بعد أن جري ما جري، ركبت معها عربة في القاهرة، كانت تجلس في المقعد الخلفي بجوار صاحبة لزمتها طوال الوقت، أتحايل للنظر إلي عينيها في المرآة العاكسة المعلقة، ثم جئت بيتها هذا في المنصور، المرة الوحيدة والأخيرة، لا أدري كيف ألممت ببعض مما يخصها، تزوجت رجالاً في سن أبيها وهي في الثالثة عشرة، عاشت ولم تعش، تفرغ طاقتها في الرسم الذي أحبته ودرسته، لا أعرف كيف ألممت بذلك، غير أنني موقن أنني أصغيت إليها، هل جري ذلك خلال زيارتي لها في المكتب، مكتبها ملحق بالمتحف، ربما، لست مستوثقاً، لكنني أكاد أري دعوتها لي إلي الصالة الداخلية حيث علقت لوحاتها، مضينا منفردين، وقفت إلي جوارها متهدجاً، تواقاً، بيننا مسافة ورعدة متصلة، لحقت بنا التي جلست إلي جوارها في القاهرة، لا أذكرها، مكانها معتم، عينا ليلي ولا غير، هذا بيت لن أراه، لن أطأ أرضه مرة أخري، عندما بدأ قصف بغداد عام واحد وتسعين، صاروخ كروز منطلق ربما من البحر الأحمر، أو من قاعدة في شبه الجزيرة، أو سفينة في الخليج، وجد طريقه إلي صميم عينيها، محا وجودها، مكان البيت حفرة، هذا ما وصفه لي الصحب بدقة، في مدينة عشق آباد قبل استشهادها بعامين، دعيت إلي بيت من طابق واحد تحيطه حديقة، صاحبه مخرج سينمائي، أوقد ناراً ليشوي لحماً ويسخن أرغفة سخية من قمح، بيت ينضم إلي بيوت لم أعرفها إلا مرة واحدة ولن ألج فراغاتها قط، بيت كان يمكن ألا أستعيده لولا تلك البنية، جاءت من داخله، لعلها ابنته، حضورها من ملمس الحرير الطبيعي، فسري إليّ منها أزيز مازال صداه يتردد ورجعه يجتاحني من حين إلي حين، فأوشك علي التذري!
من البيوت التي تتردد عليّ مسكن صاحبي المجري، تلميذ الشيخ المستعرب عبدالكريم جومانيوس، أيضاً لا أذكر كيف تعرفت إليه، رغم قولي إن البدايات دائماً لا تنسي، كذلك النهايات، لكن يبدو أن هذا ليس في كل الأحوال، كان يعمل في السفارة مستشاراً ثقافياً، مشغولاً باللغة العامية، قرر دراسة المفردات التي يستخدمها أحمد رجب في أفكاره التي يضعها لرسوم الكاريكاتير التي يقوم بها مصطفي حسين، جاءني بملف يحوي ما نشر خلال عامين، رتبت مقابلة جمعت بينه وبين الكاتب الشهير الذي تربطني به صلة ومودة، ها هو يجلس أمامي كأنه موشك علي الانكماش ،التداخل في بعضه، متطلع من تحت إلي فوق، أصغي إلي نطقه الخاص، تأكيده علي نهايات الحروف، عنده سخرية، يقص الواقعة عبر بداية ونهاية، يحكي علي تؤدة ومهل، أجلس إليه في صالة بيته بالعاصمة بودابست، مبني لا أعرفه الآن، مستحيل وصولي إليه لأنه صحبني في عربته من بيت الضيافة الذي نزلته، بيته الذي لم أدخله إلي هذه الليلة، مع تقدمي في العمر أدرك تقلص العالم ومحدوديته بالنسبة لي، ليس علي مستوي البلاد التي لن أراها إنما بالنسبة لمناطق في مصر ذاتها، وربما في المدينة التي أعيش فيها، يتحدد العالم أكثر كلما لزمنا وأمعنا، يقوي ظهور يوهاس أمامي، يجلس بجوار مدفأة من الخزف، داخلها مصدر غير مرئي، لكنها ترسل أشعة متساوية فتسري الحرارة، تدخل زوجته، من حوارهما تلوح جفوة، تحييني بتحفظ قبل أن تدعوني إلي العشاء، لم أرها إلا ثلاث مرات، مجرد عبور، أما ابنه فلم أعرفه إلي من صوره، الأنثي التي علقت عندي من ناحيته مرت أمامي مرات في المركز الثقافي بالقاهرة، كأنها تمشي في مياه هادئة تنفذ إليها أشعة القمر والنجوم، راسخة الجمال ، بثاثة، مجرد ظهورها لثوان يترك أثراً غائراً، ما تبقي عندي منها قوامها ونحت كتفيها، انسدالهما من الكتفين، هكذا لونه القمحي الموشي بحمرة الدماء الشابة السارية، مرورها بين أرفف الكتب يعاودني، مفرزة أنوثة، ومركز جذب، هل ثمة ما يخصهما؟ لا أعرف، لم أتطرق ولم أسأل، غير أنني أعرف بوقوع شقاق ما بينه وبين امرأته، كيف أحطت علماً؟ لا أدري، ربما منه، ربما من صاحب مشترك، عاد إلي مصر سفيراً، ثم انتقل إلي بغداد، وشهد القصف المركز في الحرب الأولي التي تلت غزو الكويت، ثم جاء إلي مصر في وفد، زارني في مكتبي، مجرد دخوله فوجئت، أرنو الباسم، الذي لم تغب عن ملامحه مسحة السخرية قط يبدو علي هيئة جسده قبل التحلل، كأنه ميت يمشي، قعد متهدماً، قال إنه خسر كل شيء، كل شيء، ولده سرقه، جرد البيت تماماً، أخذ ثلاثة كيلو ذهب كان يضعها في الخزانة، بدا متضعضعاً، متراجعاً، نهنه مثل طفل، سافر إلي حيث لا أعرف، لم أره ويبدو أنني لن أراه، لم أعرف كيف أتصرف، مسست كتفه، مددت إليه مناديل ورقية، قلت شيئاً عن حتمية عودة الفرع إلي الأصل، لم أره قط فيما تلا ذلك، إلي أن قابلت رساماً يعمل في الدار نفسها، بعد أن صافحني واطمأن علي الأحوال، صاح مبتسماً: اسكت مش أرنو مات!، لم أبد سخطي ودهشتي، ما علاقة الابتسامة التي رأيتها بنبأ الموت؟، غلب عليّ فضولي، استفسرت، كيف؟، قال إن عربة صدمته أثناء عبور الطريق، هنا أطل عليًّ من جوار المدفأة، علي ملامحه تلك النبرة الساخرة ،غير أن حزناً دفيناً يطل من عينيه، في أماكن شتي توجد مبان وقاعات ودور لن أدخلها أبداً، منها بيت أرنو.
من ديوان الشعر العربي
قد يهون العمر إلا ساعةً
وتهون الأرض إلا موضعاً


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.