نستأنف مقالاتنا بالشأن الاقتصادي بعد أن كانت قد داهمتنا المتغيرات الجسيمة علي واقع الأرض المصرية والتي كانت لها الأولوية المطلقة بما يعلو أي حديث آخر. تناولنا خلال الحلقات السابقة حالات: مرفق السكة الحديد - الترسانات البحرية وبناء السفن - مصنع الحديد والصلب وهي تلك القلاع الصناعية او المرافق المملوكة للدولة والتي اصابها التقادم والإهمال لكنها بقيت حجر زاوية لتحقيق الانطلاقة الصناعية. وينحصر مقالنا اليوم عن إحدي أولويات البنية الاساسية الصناعية التي تحتاجها الصناعة لتتمكن من النهوض ألا وهي صناعة ملح الطعام. كم كانت سعادتي كبيرة عندما تناهي إلي علمي أن محمد علي الكبير الملقب بصانع مصر الحديثة هو الذي أمر بإنشاء أول شركة لانتاج الملح بالاسكندرية في المكس والتي آلت بعد ذلك الي شركة المكس للملاحات وكيف كان لهذا القائد العسكري الاقتصادي الاجتماعي أن ينقل مصر هذه النقلة الكبيرة ويضعها علي مصاف الدول ذاتية التنامي وكيف أنه لم تغب عنه اهمية صناعة ملح الطعام كمكون استراتيجي حتي لا نضطر لاستيراده من المستعمرات البريطانية التي لم تكن تغيب عنها الشمس. ويبلغ اجمالي انتاج ملح الطعام في مصر 5 ملايين طن سنوياً تبلغ قيمتها 005 مليون جنيه، تنتج منه شركة المكس للملاحات 03٪ من إجمالي الإنتاج بما قيمته 061 مليون جنيه سنوياً يعود الفضل فيها الي محمد علي الكبير كما تبلغ صادراتنا الخارجية ما قيمته 002 مليون دولار سنوياً. وترجع أهمية ملح الطعام الي كونه مادة غذائية حيوية لا بديل لها للكائنات الحية فهو ثالث ضرورات الحياة (الهواء - الماء - ملح الطعام). وقد رأت الدولة ممثلة في وزارة الصناعة ووزارة الصحة بتوصية من منظمة اليونيسيف بتدعيم انتاج الملح في مصر للأغراض الغذائية بعنصر اليود كنوع من العلاج الجماعي المستخدم في الدول المتقدمة والنامية للوقاية من اضطرابات نقص عنصر اليود الذي يؤدي إلي أمراض الغدة الدرقية كما يؤثر علي نمو الأطفال ومستوي ذكائهم وذلك منذ عام 6991. وتقوم صناعة الملح في مصر علي عاتق خمس شركات أربع منها قطاع عام أكبرهم شركة المكس للملاحات، الا أن كونهذه الشركات قطاع عام مملوك بالكامل للدولة لم يعصمها من تعنت المحافظات التابعة لها جغرافيا تلك الملاحات إذ أن المحافظات المختلفة سواء كانت محافظة الاسكندرية أو محافظة بورسعيد أو شمال سيناء أو كفر الشيخ أو مرسي مطروح وغيرها تتجاهل وضعها كشركات مملوكة للدولة وتعمد الي طرح حقوق استغلال الملاحات في مزايدات شرطاً لتجديد عقود استغلال الملاحات القائمة فعلاً رغم أن الملاحات لا تخضع لقانون المزايدات والمناقصات وإنما تخضع لاحكام القانون رقم 151 لسنة 6591 والذي نص علي ان تقدير القيمة الايجارية السنوية لحق استغلال الملاحات يصدر بقرار من وزير الصناعة ضمن الاختصاصات المخولة له بمقتضي القانون الصادر سنة 6591. كما أن هذه النظرة الضيقة من جانب المحافظات المختلفة في السعي وراء تعظيم العائد الإيجاري لهذه الملاحات قد يؤدي إلي هدم كيانات اقتصادية وتصفية شركات قطاع الاعمال العام حيث ان أصول تلك الشركات تقع علي أرض تلك الملاحات، كما ان هذا السلوك المحفز للمضاربات الاستغلالية قد شجع الكثير من السلوكيات العشوائية من الأهالي التي عمدت لاحتلال جانب الملاحات وإدعاء حقوق لها عليها، كما ان بعض المحافظات تدرس حالياً تحويل بعض الملاحات بالمكس الي مناطق سكنية تحت إغراء ارتفاع ثمن الاراضي السكنية بتلك المناطق متجاهلة ان الملح سلعة استراتيجية خاماتها موجودة علي أرض مصر وأن الملاحة تحتاج من سبع إلي عشر سنوات لينتظم انتاجها من الملح وتستقر درجة جودته. يحدث كل هذا في الوقت الذي اصبحنا نواجه عجزاً في الإنتاج مع زيادة الطلب علي الملح مع ظاهرة تزايد الزحف العمراني علي الملاحات. كفانا إهداراً للقيم والموارد التي حبانا بها الله، ولنعلم أن النعم زائلة إن لم نحافظ عليها.