مهندسين عبر النافذة تقوم البنايات وفي الشوارع تحت المستشفي يلعلع الآلي، ممدد، تمتد الأسلاك، كيس الدم معلق، لا أعرف من يطلق النار؟، سمعت الانفجارات من شتي العيارات، لكن الآلي في المهندسين، الحي الأنيق، المبني شاهق، كله عيادات الأطباء، مستشفي البرج الذي ألوذ به عند الأزمات يقع في الثاني والثالث، ما بيني وبين الدكتور جلال السعيد يستعصي علي التفسير، أخجل من الحديث عن عطبي إلي حين حتي وإن دوهمت بما لم أتوقعه، ماذا يعني مصيري والوطن يدمي. النافذة تطل علي عدة مبان متجاورة، أحدها يبدو مغايراً، سفارة ما، ربما، للمباني هنا سمة لستينيات، خطوط مستقيمة، متقاطعة، نوافذ أو شرخات متساوية، شوارع متوازية، جامعة الدول، أحمد عبدالعزيز، مسجد مصطفي محمود قريباً، مجند يحاول الثبات، لكن صوت الآلي يعني وجود مسلحين، هذا غير مسبوق. المهندسين، المهندسين، لم يكن للمنطقة وجود، منطقة خضراء، المزروعات خضار وفاكهة، من صفط اللبن ينتقل الحليب والخضار الطازج إلي أسواق القاهرة. المهندسين لم يكن لها وجود قبل الستينيات، أعرف المنطقة، الاسم الغالب زمن طفولتي الدقي كان أبي يعمل في وزارة الزراعة، علي الأقل مرة في الشهر يصحبنا، مقر انتظارنا وفسحتنا وفرجتنا المتحف الزراعي، الأميرة فاطمة التي باعت مجوهراتها لتبني كلية الآداب عاشت هنا، هذا قصرها، ثمة شبه بين مبني الوزارة والكلية، لم أعرف اسم المهندس، طفلاً خطوت في المنطقة، الوزارة المتحف النادر كانا آخر البنايات، بعدهما حقول ممتدة، غير أن المباني كانت موجودة في المواجهة، ما بين شارع النيل والمتحف وقصر الأميرة شوارع أنيقة محفوفة بالأشجار العتيقة، ميدان ڤيني، العجوزة، من الواجهات التي أراها حتي الآن مستشفي الكاتب، مبني ثلاثيني، له عندي الأبيض والأخضر، دخلته مع والدي صبياً لزيارة أحد الأقارب، ثري، عنده فدادين وتجارة، أراه علي البعد راقداً فوق السرير، إلي جواره منضدة فوقها نصف بطيخة مغطاة بشال أبيض، لا يقدر علي المستشفي إلا لمن لديه مال وفير، أحياناً أمر به صدفة، أستعيد عندئذ وجه الرجل مستسلماً، غائر العينين، متطلعاً إليّ، فيما بعد، فيما بعد زرت الشاعر الكبير كامل الشناوي، صوته العميق يعاودني، يأتيني أحياناً، كنت أصغي إليه يحدث صاحبه عبدالرحمن الخميسي الذي صحبني، كانت صلتي به وثيقة، لماذا جئت معه؟، لا أعرف، تحديقي إلي واجهة المستشفي لا يقدم لي عوناً، فقط مجرد جلوسه علي حافة السرير، صوته العميق، كان الحديث يجري حول شخص ملاحق من البوليس في الاسكندرية، يهيم في اللاموضوع كثيرون بلا حصر، أرقب ملامحهم، أو جزء من بعضها، أما الذين ذكروا علي مسمع مني فلا يمكن التعريف بهم أو استعادتهم، سأصحب ذكري ما يخصهم معي ويسدل أستار اللامرئي علي كل شيء، فلأرجئ هذا، ما يعنيني المهندسين، عندما جئت إلي مؤسسة التعاون الإنتاجي القريبة من كوبري الجلاء، كنت أركب أتوبيس رقم 66، اختفي الآن، من إحدي نوافذه رأيت نجيب محفوظ يمشي فوق كوبري قصر النيل، منه بدأ وثاق علاقتنا، كثيراً ما مال عليّ، يقول باسماً: فاكر كوبري قصر النيل، يقف حبيبي وأستاذي في تمثال قميء، اختصر قامته الفارهة حتي في شيخوخته التي نحل فيها، أطلق اسمه علي أشهر ميدان في المهندسين لكن القوم يأبون تغيير الاسم، الميدان مازال عندهم سفنكس، تماماً مثل شارع فؤاد، رفض الناس 62 يوليو ومازالوا، ظهرت المهندسين بالتدريج في البداية، قطعة أرض تخص النقابة، يبدو أن نفوذاً قوياً أدي إلي التخطيط والبناء، ظهرت العمارات، مجموعة قليلة في البداية ثم انطلقت في كل اتجاه. العمارات التي أراها ستينية، اليوم جمعة، أحاول استيعاب الضوء الأغسطسي الناعم، أرقب كيس الدم المعلق، تري، إلي من تمت هذه القطرات، من؟، بالأمس بدأ إطلاق الآلي مع بدء فض اعتصام رابعة، في السادسة صباحاً اتصل بي يوسف، قلت له إنني مستيقظ منذ ساعة، أبلغني ببدء الفض، عدت إلي التطلع، هذا فراغ صيفي، الشارع المطل عليه المستشفي عريض نسبياً، في البداية كانت المهندسين أنيقة، مرتبة، زمن المهنيين الستيني، في نهاية شارع أحمد عرابي ظهرت مدينة الصحفيين، كثيرون من الصحب استقروا فيها، توزعوا هنا وهناك، في البداية كان كل شيء هادئا، كأنه مرآة مضطربة للحي الأنيق المقابل، أعني الزمالك، غير أن اضطراب البناء بدأ، الشوارع الأنيقة تحولت إلي حواري لكنها تفتقد منطقية أزقة ودروب الجمالية، بقيت محايداً بالنسبة للمهندسين، لم أفكر في الإقامة بها، وعندما ظهر عرب الصيف صرت أتجنبها، لا أقصدها إلي لضرورة. يشتد إطلاق الآلي، فرق بين أن تسمع الطلقات في حرب، في صراع مهما اشتد لكن تظل له قواعده، وبين إطلاق نار تحت النافذة، قاتل للقتل، القاتل من أهلي والقتيل، طوال تجوالي في المهندسين، تلك الموجودة بالفعل، وتلك المتشظية في ذاكرتي، لم أتصور أن يجييء يوم يصوب فيه بعضهم الآلي إلي الأهالي الحقيقيين، كنت غير قادر علي الاستيعاب، احتمال مهاجمتهم المستشفي وارد، لا رادع عندهم، لحظة غريبة لم أتصور إدراكي لها، يشتد إطلاق النار، يقول محمد ابني إن الضرب قريب من جامع مصطفي محمود، كان فضوله قوياً، غير أنني رجوته الابتعاد، تراجع، جلس علي حافة سريره مصغياً، كنت مشدوداً إلي سريري، متطلعاً إلي كيس الدم، مستعيداً زيارة الدكتور جلال السعيد أمس، أمس الخميس، الطرق مضطربة، قطع المسافة من المعادي إلي المهندسين في ثلاث ساعات، لم يكن عنده سواي، أطلق عليه »يوم المناظير«، كان يجلس أمامي هادئاً، يتابع التقارير، ويتحدث بتلقائية سمحة، صريح هو، لا يخفي وضعاً أو حالة، لكنه هذه المرة مهموم، حذر، مشغول، انصرف قبل حظر التجول بساعتين، قال إنه سيتصل من البيت، مستسلم تماماً، هادئاً، أصغي إلي اقتراب الغروب، يقول محمد إنه رأي شاباً يتخذ وضع الضرب، الطلقات تخرج في دفعات، مجهولين للقاتل يتساقطون عند عبورهم الطريق، مرة أخري أطلب من محمد الابتعاد عن النافذة، يمكنني تمييز لون العمارات التي تقع في حيز بصري، كلها بلون الأسمنت، مجاور للنافذة بحكم وضع الآلات والأكياس التي تقطر داخلي ما يساندني في مواجهة ما لقيته، عند الغروب أخلد إلي الأماكن المفقودة مني، التي تركت عندي أثراً، طافت بي وجوه من سكنوا المهندسين، يكفي مصطفي نبيل النيل، وشمس الأتربي، وفريدة والخال وكل من أقام بالمهندسين، بعد الازدحام بدأ انتقال القادرين إلي التخوم، أطراف القاهرة، زاد انقطاعي عن المهندسين، لكن ظل مستشفي البرج ملاذي، أضبط حالي عليه عند استشعاري الخطر، الخطر هذه المرة اكتشفه الدكتور جلال عندما وصله تحليل الدم، دمي الذي اختلط بدماء مجهولين وهبوني الحياة، عندما سمعت بحرق بنك الدم بكيت، دمعي صار قريباً هذه المرة، شق صدري، مرتين ولم أدمع، قلت مستنكراً »هل جري في أي حرب حرق بنك الدم«؟. قال الطبيب الشاب: أرجوك لا تنفعل. وكان الليل والآلي يجثم علي المهندسين، وأنا أرقد مضطراً في المهندسين. لوران فضاء محندق، فراغ مضموم، بحر وبر يلتقيان، منذ تعرفي علي البحر لأول مرة في الاسكندرية وإدراكي المدي اللامحدود علقت بالاسكندرية، خاصة في الشتاء عندما تخلو من الغرباء وترسو علي أهلها، لكل جزء منها مسار ومسعي، كان حلمي دائماً شرفة، مجرد شرفة تواجه اللامدي، لا أعرف العوم، صلتي بالبحر جلسة وتأمل، حتي بعد تدهور الحال وظهور الأبراج والعشوائيات الرأسية بقيت مزارات تخصني، أمضي إليها وأستعيدها وعندما تهدد وجودي أكثر من مرة، أعني التهديد القادم من الداخل يتعلق الإنسان بالمكان، ليس بالضرورة الذهاب إليه، أو التجوال فيه، يكفي استدعاءه، هذا حالي مع لوران. صاحب لي عمل في الإذاعة، زميله من أسرة ميسورة، أنيقة الحال، قال ونحن في الفيشاوي: ما رأيكم في زيارة للبحر، كنا نتوثب، نترقب، تطلق الفكرة فلا نتردد، أعجب الآن، كنا طوال الوقت صحبة متضامة، في المقهي ليلاً، في ريش عصراً، متي كتبت ما كتبت؟، ذلك من الغاز الوقت، قال إن الأسرة تمتلك شقة في الاسكندرية، بالطبع خالية الآن، ابتهجنا، فلنقدم فوراً، اتسعت سيارته لنا وسلكنا الصحراوي بعد ساعتين، مضي كل منا إلي بيته، مجرد حقيبة صغيرة، مضينا عبر الطريق الضيق، كان الصحراوي يتسع للاتجاهين معاً، أنشدنا وصفقنا وتحررنا من جميع القيودات، أقبلنا علي البحر وعندما بان الموج المنبسط كدت أذوب في اللون الأزرق الشفاف، ألوان الاسكندرية صريحة، واضحة تماماً كما تبدو في لوحات وانلي، فيما تلا ذلك بدأ ترحالي ويمكنني القول إنني وقفت علي شاطئ المتوسط، البلدان المطلة عليه، البحر واحد والماء واحد وسطحه واحد، غير أن لكل موضع أحواله وهيبته، أقول عن معاينة، ليس مثل بحر اسكندرية بحر، خاصة الميناء الشرقي، أو بحري حيث سوق الطباخين وصاحبي فرج الذي أذاقني من الأسماك أعاجيب ولي عنه حديث طويل. سألنا مدحت، أين البيت قال كلمة واحدة فقط، لوران لوران، أشرق عندي حال، وضوي شيء مازال يرسل إليّ ما غمض عليّ حتي الآن، أعرف أنه يخبو، بل إنني أفقد القدرة علي المقارنة بين ما عرفته في الواقع المحسوس، وما أستعيده بعد حوالي نصف قرن، ربما أكثر، عندما سمعت الاسم بدأ توقي إلي التعرف، إلي معرفة الموضع، سكنت الكينونة وسكنتني، مطلة علي البحر من ثلاثة طوابق، كلها خشبية، أعني الشرفات، مطلة علي البحر ممتدة، عريضة، غريب أمرها، كأن الأفق يبدأ من عندي، انبثق عندي شيء يحيرني، فضولي لمعرفة الأسماء عظيم، لكنني لم أحاول معرفة الأصل، من أين جاء، تعلقت به، رغم ضجيج الصحب وغنائنا الجماعي إلا أنني كنت أنسحب إلي الشرفة، أرقب الظهور المفاجئ للغمام، لا أعبأ بالرياح، كل المباني المحيطة خالية، قال مدحت: لا يوجد إلا البوابين الصعايدة، حراس العقارات، غير أن لوران دثرتني، سافرت كثيراً واغتربت بعض الوقت لكن لا لوران فارقتني ولا أنا نأيت عنها، لحقت بالضوء، ذكرتها في أماكن نائية، وفي الخضم، أستعيد بهجتنا المتدفقة، حميمية الصحبة التي تبددت، لم يعد متبقياً من الشلة إلا اثنان، واحد منهما هو أنا، تسألني الممرضة عن سر دمعي، فأوشك علي النطق، إن قطر المطر في لوران، لمعة ما تبقي علي أرض لوران، بدهشة الوقت، المسافة الفاصلة، غير أن لوران تظل ما قبل وما بعد، أما لمعة قطرات المطر فما تزال، لوران يا ذارفة دمعي، وما أصعب الدمع من الكينونة علي الكينونة، لوران، لوران. أم الغلام ياه، هل انضم شارع أم الغلام إلي الأماكن التي تبدو مستحيلة رغم أنه في متناولي، لولا خشية المبالغة لقلت إنني أحفظ كل ملليمتر سواء تعلق الأمر بواجهات الحوانيت أو المقاهي أو الدروب المتفرعة خاصة مدخل كفر الزغاري، أقطعه منذ أن كنت طفلاً، ربما مع تواكب التحاقي بمدرسة عبدالرحمن كتخدا التي أتقنت فيها سر الحرف، لا أدري متي استمعت إلي اسم أم الغلام، منذ ذلك الحين وحتي الآن موقن من وجود سيدة تهيمن علي المكان، علي الطريق المؤدي إلي ضريح مولانا، إلي مشهد الحبيب الحسين، أم الغلام قديم ذكرها، لا توجد لافتة زرقاء بحروف بيضاء التي خطها أحمد بك داويني زمن الملك فؤاد، لوحاته منحت المدينة بعداً خفياً، لا يمكن تخيل شوارعها بدون هذه اللافتات، عندما نزلت الاسكندرية وجدت اللافتات الخضراء بحروف بيضاء فدهشت لذلك، عادة أقطع الطريق قادماً من مقر إقامتنا المؤسس، المنزل عليّ، أول ما أبصرت منه الدنيا، أجيء من الناحية المعاكسة، من ميدان الحسين، يختلف المشهد، كذلك السعي، منذ مفارقتي لدرب الطبلاوي، منزلنا اتجه يمنة، بداية قصر الشوق، عم رضوان السباك، مدخل حارة موسي، مدرسة عبد الرحمن كتخدا، عند الغرفة المجاورة سلمني أبي إلي ابراهيم افندي، علي جانبي جبهته وشم من عصفورين، كان القوم فيما تلا ذلك إذا تنابذوا فيما بينهم يقولون »أصله داقق عصافير«، أمام المدرسة خرابة، بقايا عمارة، في الخلفية مبني يعلوه برج حمام، لكن يخشاه الأطفال لما يتردد عن وجود غولة تختطف الصغار وتأكلهم، أنأي بنفسي عنه، علي الناحية الأخري محل كشري عبدالعاطي والذي أسس لمذاق هذه الأكلة الشعبية، الرائحة العبقرية خليط من تقلية البصل والصلصة، الأرز وحمص الشام، عبده الكبابجي، رائحة تسري، منه بدأ تفضيلي للكفتة، خاصة إذا ما غمست بالطحينة، قرب مدخل كفر الزغاري مقهي أتجنبه صبياً وألازمه شابا، يلوح مسجد، عمارة قامت في الستينيات، بها محل تصوير سريع »فوتوماتون«، منه بقيت صورة نادرة وحيدة مع شقيقي اسماعيل، يمسك كتاباً وأرتدي غطاء الهنود الحمر، أشهر مسدساً ويلوح عليّ غضبا، عند اعتقالي استولي الضابط علي جميع ما لدينا من صور قليلة، لا توجد لي صورة قبل ذلك، فقط تلك، عند هذه العمارة يبدأ حضور أم الغلام مع أنه قديم، رحت وجئت أعواماً عديدة قبل أن أعرف من القوم، لا أقدر علي شخص بعينه، بل أعرف كيف اكتملت التفاصيل، بعد أن احتز شمر بن الجوشن رأس الحسين، طارت من كربلاء، قطعت المسافة إلي مصر في أربعين يوماً، استقرت في حجر بائعة فقيرة يجلس ابنها إلي جوارها، جاء جند يزيد يبحثون عن الرأس الشريف، قدمت إليهم رأس ابنها، افتدت رأس الحسين، مكان ما جري شق في الجدار القديم لا ينفذ منه العطر، لم أمر به إلا ووضعت أصابعي لأحتفظ بالعبق الجميل، في السنين الأخيرة أحاطه المتشددون بسياج، بدعوي أنه حرام، غير أن أم الغلام باقية، مكان أثير، صحيح، شارع له خصوصية أتصالح علي حالي فيه، هذا صحيح، لكنني واثق من وجودها، لها جلسة أمي وحنانها، قدام ما، تغدق عليّ طفلاً ثم صبياً ثم شاباً وأخيراً، أخيراً، أرفع بصري عبر النافذة، قطرات الندي والدم تتوالي، أغمض عيني، أكاد أشعر بتمليس أم الغلام، تنحني عليّ، تشملني فأرجو منها قبلة الحياة لعل وعسي.