عندما انفجرت إشكالية المحاكمات الكنسية, بادر التيار العلماني القبطي بطرحها علي مائدة البحث والدراسة, لم نكن في الطرح نتواجه مع شخص أو أشخاص ولم نكن ندافع عن أحد بعينه, لكننا كنا نستشعر خطرا تتشكل ملامحه خلف مظاهر اقتحمت المشهد الكنسي, لم تكن متسقة مع السياق العام للبنية الكنسية كما تسلمناها من الآباء, وكما احتشدت بها أدبياتها, وتشكل معها وجداننا, وبعد أن صدمتنا رياح العنف تحت ستار التقويم, وقرارات الحرمان والقطع من الكنيسة بغير محاكمة عادلة, وفي احيان كثيرة بغير محاكمة, إلي درجة أن صرح أحدهم يوما في محاولة اضفاء الشرعية علي هذا العسف, بأنه يستند الي قول الإنجيل( خطايا بعض الناس واضحة تتقدم الي القضاء و اما البعض فتتبعهم رسالة القديس بولس الأولي الي تلميذه تيموثاوس فصل5 عدد24), وهو يعيد انتاج مبررات اليهود في إدانة السيد المسيح توطئة لصلبه( فمزق رئيس الكهنة حينئذ ثيابه قائلا قد جدف ما حاجتنا بعد الي شهود ها قد سمعتم تجديفه الإنجيل بحسب القديس متي فصل26 عدد65). ولعل المتابع يذكر أن إشكالية' المحاكمات الكنسية' هذه جاءت ووجدت لها مكانا في المؤتمر العلماني الأول, نوفمبر2006, وكانت واحدة من النقاط الملتهبة التي أثارت مزيدا من الزوابع علي العلمانيين, لكنها لم تقو علي اقتلاعهم, وجاء طرح العلمانيين لهذه القضية في ورقتين جاءت الأولي تحت عنوان: المحاكمات الكنسية في المجتمع القبطي المعاصر أسئلة مطروحة للحوار قدمها الاستاذ أكرم رفعت طرح فيها اسئلة مهمة كأساس يتم التحاور حوله وبحسب توصيفه ف( هذه الورقة معنية بالأساس بطرح مجموعة من التساؤلات المثارة حول بعض جوانب عملية المحاكمات الكنسية, وتنظيم عملية الحوار حول المحاكمات الكنسية علي أمل الوصول إلي توصيات فعالة وإيجابية وبناءة, تسهم في تطوير أداء المؤسسات الكنسية وتفعيل دورها). وهو يوصف المحاكمات بأنها( الأدوات التي وضعت داخل الكنيسة لضبط العلاقات بين الأطراف المختلفة داخل حركة المجتمع الكنسي, بشرط خضوع هذه الأطراف لسلطة الكنيسة الروحية, فلا يجب إذن أن يقتصر تعاملنا مع' المحاكمات الكنسية' علي أساس تصور مبدئي سلبي وكأنها بحد ذاتها شر لا خير فيه علي الإطلاق, فالمحاكمات من حيث المبدأ آلية من آليات تنظيم سير المجتمع أي مجتمع وقد يسقط المجتمع في هاوية الفوضي والانهيار متي إعوجت أو انعدمت المحاكمات, وفسد أو إختفي القضاء). وينبه الأذهان إلي خطورة( الخلط بينها وبين أمور أخري, وبخاصة الخلط بين المحاكمات الكنسية وبين غيرها من الظواهر الأخري الشبيهة, وفي أقل تقدير هناك خلط شبه دائم بين المحاكمات الكنسية وكيفية استخدام الآباء من الإكليروس لما يسمي بسلطان الحل والربط, وأيضا بين المحاكمات الكنسية وبين ما يمكن أن يسمي بظاهرة الشلح أو الحرمان, وفي هذه المقدمة نري أهمية التأكيد علي التفرقة بين هذه الأمور وبعضها البعض, وإن كانت جميعها تتعلق بقضايا العقوبات الكنسية). ثم يطرح اسئلته التي تدور حول اربعة محاور: أولا: غياب القانون واللوائح المنظمة السارية. ثانيا: أسئلة حول الفصل بين سلطات المحاكمة وأطرافها. ثالثا: أسئلة حول الهدف من المحاكمات وأسبابها. رابعا: الفصل بين اختصاص المحاكمات الكنسية والمحاكمات المدنية العامة. وهي محاور تحتاج الي دراسة قانونية روحية كنسية تتدارسها في اطار النموذج الذي أعمله القديس بولس وخبرات الآباء. وتأتي الورقة الثانية في شكل بحث مستفيض قدمه أحد الآباء الرهبان من برية شيهيت وادي النطرون, لتقدم لنا قراءة متكاملة الأركان لكل جوانب اشكالية التأديبات الكنسية التاريخية والطقسية والضوابط الحاكمة لها والمعالجة للتعسف في استخدام السلطة وضمانات العدالة في رؤية موثقة كتابيا وتقليديا, وتحمل إجابات محددة علي الأسئلة التي طرحتها الورقة الأولي, في تأكيد علي موضوعية الطرح. وهي تفصل برؤية أكثر قربا من الروح الكنسية, ما أجمله أسقف التعليم, وسوف نحيل قراءتنا لهذه الورقة الي مقال تال. لكنني اتوقف اليوم أمام ظاهرة تشهدها أروقة الكنيسة في مختلف الإيبارشيات( الإيبارشية هي نطاق جغرافي يضم مجموعة من الكنائس يديرها أسقف تتسع لتشمل محافظة بجملتها: القاهرة والاسكندرية نموذجا أو تضيق لتضم مركزا أو أكثر وما يتبعه من قري). هذه الظاهرة هي حالة الرعب التي تكتنف الآباء الكهنة في دائرة التعليم, وهي المهمة الأكثر ثقلا علي كاهلهم, فقد لفت نظري تراجع التعليم اللاهوتي في غالبية عظاتهم ومحاضراتهم خاصة في دائرة الشباب, واستبداله بتعاليم غائمة تتحدث في المطلق وفي دوائر الحكايات والمعجزات, وتكاد تخاصم أقوال الآباء إلا فيما يأتي ذكره علي فم الأب الأسقف أو الأب البطريرك, ورحت اسأل العديد منهم عن تفسير لهذا, وكادت اجاباتهم تتطابق في مجملها, أنهم يؤثرون السلامة, فهم يعولون أسرا لا تحتمل قرارا بالإبعاد, وقد تعلموا الدرس من الرؤوس التي طيرتها قرارات المجلس الإكليريكي وهي لأسماء كانت ملء العين والبصر, بل وطالت اساقفة مشهودا لهم, لم تفلح معها استرحامات رعيتهم ولا مطالباتهم بعودتهم, رغم القاعدة التي يتغنون بها أن من حق الشعب أن يختار راعيه, وبالتالي من حقه التمسك به والإلتفاف حوله, ومنهم من مات كمدا بعد أن تمت محاصرتهم في مقار اقامتهم, ومن المفارقات التي تستعصي علي الفهم أن قداسة البابا حين كان اسقفا للتعليم إجتاز هذه التجربة, تجربة الإقصاء والإبعاد الي الدير بقرار من قداسة البابا كيرلس السادس, نوفمبر1967, ووثق هذا في خطاب لصديقه الحميم د. سليمان نسيم قبل أن تتبدل المواقف وتتباعد المسافات, وفيه يقول( الوضع الذي أنا فيه أيها المبارك كان لابد أن يكون, هو نتيجة طبيعية كنت أنتظرها منذ زمان, منذ وقفت أدافع عن القس يوحنا سيدهم وما حاق بنفسه البارة من ظلم, ومنذ وقفت أدافع عن قوانين الكنيسة وحق الشعب في اختيار راعيه, ومنذ بدأت انشر صفحة الرعاية في مجلة الكرازة لأوضح الأوضاع الكنسية السليمة حتي لا ينفصل الناس عن ماضيهم المجيد ويعيشوا في حاضر منحرف). هل نملك القدرة علي القول: ما أشبه اليوم بالبارحة؟!. خطورة ظاهرة الخوف الذي يكتنف الكهنة تتبدي في التداعيات التي بدأت تتفشي في الشارع الكنسي, في هشاشة الإيمان ومن ثم انهيار اركان الحياة الروحية كما عاشها اسلافنا, والتي تترجم في الصراعات الأسرية وفي مطالبات الطلاق المتزايدة والتي تمثل صداعا مزمنا في رأس الكنيسة, وفي حالات الإرتداد وفي الهجرة الي كنائس أخري, وفي تدني العلاقات بين الخدام علي مستويات مختلفة, وفي استغراق غالبية الكهنة في الأعمال الإنشائية والتجديدات المعمارية, أو في اعمال خاصة, تستهلك طاقاتهم وتحيلهم الي حالة من الرضي تعوضهم عن تأنيب قد يبديه ضميرهم الروحي حيال قصور خدمتهم الروحية, المشكلة الحقيقية تكمن في أن تتجمع تلك المخاوف خلف الأبواب لتشكل واقعا رصده صاحب سفر الرؤية( أكتب الي ملاك الكنيسة التي في ساردس... انا عارف اعمالك ان لك اسما انك حي و انت ميت)( رؤ3:1) أحد الآباء الرهبان من برية شيهيت وادي النطرون, لتقدم لنا قراءة متكاملة الأركان لكل جوانب اشكالية التأديبات الكنسية التاريخية والطقسية والضوابط الحاكمة لها والمعالجة للتعسف في استخدام السلطةخطورة ظاهرة الخوف الذي يكتنف الكهنة تتبدي في التداعيات التي بدأت تتفشي في الشارع الكنسي [email protected]