آخر مرة زرت فيها السودان كانت منذ شهر تقريبا, ذهبت إلي الجنوب جوبا, بحثا عن بوادر الوحدة بين الجنوب والشمال ففاجأني التأهب للانفصال, كنت أبحث هناك عن الوجود المصري, هل مصر موجودة بشكل كاف في السودان امتدادها العربي و الإفريقي, والجارة الأقرب, والتي كانت ذات يوم تكوين مع مصر دولة واحدة ؟ تغيرت السودان كثيرا عن أول مرة زرتها فيها, كان ذلك في عام,1985 كانت الانتفاضة في أسبوعها الثالث تقريبا, وكان كل سوداني يسير مزهوا وكأنه يريد أن يؤكد أنه كان جزءا من تلك الانتفاضة التي تظل جزءا مضيئا في تاريخ السودان مهما كانت السلبيات المصاحبة أو التالية لها. في تلك الزيارة وضعت يدي للمرة الأولي علي سلبيات وحساسيات العلاقة المصرية السودانية, وأذكر وقتها لقاء جمعني والدكتور محمد بشير حامد, الأستاذ في الجامعة الأمريكية ووزير الإعلام السوداني في تلك الفترة, ورغم التفتح الواضح في أطروحات وأفكار الدكتور بشير حامد إلا أننا عندما وصلنا في نقاشنا إلي العلاقات المصرية السودانية, احتد الوزير وقال ما خلاصته إننا في السودان نعرف لاعبي كرة القدم المصريين بالاسم وفرقهم, نعرف مطربيكم وفنانيكم, فما بالك بالسياسيين والمفكرين, بينما أنتم في مصر تخطئون حتي في أسماء الوزراء والسياسيين والفنانين السودانيين في وسائل إعلامكم'. أصاب وزير الإعلام السوداني الأسبق الذي لم يبق في منصبه الا حوالي العام وقتها, فقد وضع يده علي نقطة مهمة من سلبيات العلاقة المصرية السودانية. المرة الثانية التي زرت فيها السودان كانت بعد24 ساعة من انقلاب,1989 وجوه السودانيين في تلك الفترة كانت تعبيراتها مختلفة. كان الانهاك والارتباك وعدم اليقين في القادم هو السمة السائدة في تلك الفترة. التقيت خلال هذه الزيارة معظم قادة الانقلاب وعلي رأسهم الفريق وقتها عمر البشير, وعندما عدت إلي القاهرة والتقيت بعدها مسئولا مصريا عندما علم أنني عدت لتوي من الخرطوم سألني مفاخراي دون أن ينتظر اجابة..' هل رأيت كيف هم أي قادة الانقلاب مصريون' قوي' ؟!. الموقفان أظهرا لي مع استمرار متابعتي للشأن السوداني أن مصر لم تتمكن طيلة عقود ممتدة منذ استقلال السودان من أن توجد لنفسها امتدادا حقيقيا ومؤثرا داخل الشارع السوداني السياسي وقواه السياسية المختلفة, وأن التعامل أو التعاطي مع المسألة السودانية ظلم مقصورا علي مؤسسات بعينها ولم يتجاوز ذلك, ولم يرق الاهتمام بالعلاقة المصرية السودانية إلي مناطق أخري مهمة تتجاوز الجانب المؤسسي إلي المسائل الشعبية والحزبية والإعلامية والسياسية, وأذكر أنني تحدثت من قبل عن عدم وجود طرق كافية بين مصر والسودان إلا قليلا. ربما أدركت ذلك أخيرا, وهو ما لاحظته في زيارتي الأخيرة, لكن الأمر يحتاج أكثر من ذلك, وربما تكون أزمة حوض النيل الأخيرة, وتقارب وجهتي النظر المصرية والسودانية, وتلاقيهما مدخل مناسب لذلك, ودافع لوجود مصري أكبر علي كل المستويات ليست المؤسسية فقط في السودان, وإذا كنا ندعو إلي التعاون المشترك مع دول منبع النيل, فلا ننسي أيضا أهميته مع الدولة التي تشاركنا المصب, والتي هي أكثر من امتداد أفريقي لنا, بل هي دولة عربية إفريقية وشقيقة, وكلا البلدين عمق استراتيجي للآخر في مواجهة القادم المجهول. [email protected]