ما يحدث في تركيا كان مفاجئا, فبدءا من أول يونيو, ميدان تقسيم في اسطنبول يستحضر تجربة ميدان التحرير, مظاهرات واحتجاجات بعشرات الآلاف تتظاهر وتندد بسياسات وممارسات رجب طيب أردوجان امتدت إلي معظم أنحاء تركيا. وهي ظاهريا كانت تحت شعار منع إقامة مركز تجاري كبير علي حديقة عامة وتغيير شبكة المواصلات. لكن الاحتجاجات في العمق والمضمون ضد المشروع الهادف أساسا إلي خنق نصب العلمانية الذي يجسده تمثال لأتاتورك وجنوده, وإلغاء ساحة تقسيم من أن تكون رمزا للعلمانية. وضد ممارسات السياسات الكيدية والانتقامية والاستئصالية التي انتهجها أردوغان تجاه الفئات العلمانية علي امتداد السنوات العشر الأخيرة. ومحاولات ما يرونه من نهج العدالة والتنمية لتغيير منظومة القيم العلمانية واستبدالها بمنظومة ذات طابع ديني بدءا من تغيير النظام التعليمي ليكون للمدارس الدينية حيز كبير لتنشئة جيل متدين محارب, وصولا إلي المساس بالحريات العامة, علاوة علي الممارسات التقييدية للحريات الصحفية وحرية التعبير.. وسبق ذلك قرار رئيسا الجمهورية عبد الله غول والحكومة رجب طيب أردوغان إطلاق اسم ياووز سلطان سليم علي الجسر الثالث المزمع إنشاؤه علي مضيق البوسفور. وياووز سلطان سليم ليس سوي السلطان سليم الأول الذي حكم الدولة العثمانية1512 و1520, وهو السلطان التاسع في السلالة العثمانية, والذي غزا مصر واحتلها بعد موقعة مرج دابق1516 وشنق الشهيد طومان باي عام1517. وهو ما مثل استفزازا للعلويين في تركيا الغاضبين أصلا من تجاهل أردوغان لمطالبهم ولمجازر السلطان سليم ضدهم. مظاهرات تقسيم تطرح تساؤلا عن الميادين العامة التي تبدأ أسماؤها بحرف التاء, وتجذب الناس للتظاهر ضد حكامهم المستبدين؟ في الصين كانت تظاهرات ميدان تيانانمن عام1989, وفي مصر شهد ميدان التحرير عام2011 تظاهرات, الآن تشهد تركيا تظاهرات في ميدان تقسيم. ولكن متظاهري تركيا, مختلفون عن نظرائهم في مصر والصين, فهم يتحدون حكومة منتخبة, يقودها أردوغان فقد أصبحت تركيا ديمقراطية متعددة الأحزاب بكل ما تحمله الكلمة من معني في عام1950, حتي الآن, حيث شهدت تركيا16 عملية انتخابية منذ عام1950 أي أن انتخابات عام2011 كانت رقم16. وطوال هذه الانتخابات من1950 2011 لم يتمكن من التفرد بالسلطة سوي4 أحزاب فقط وتم ذلك ثماني مرات, ففي الفترة من1950 1960, تولي الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس مقاليد الحكم ثلاث مرات, وفي الفترة من1960 1980, تمكن حزب العدالة بزعامة سليمان ديميرل من الحصول علي الحكومة بمفرده مرتين, وبعد عام1980, كان المتفرد بالسلطة هو حزب الوطن الأم بزعامة تورجوت أوزال, وكلها أحزاب يمينية. ثم تولي بدءا من2002/11/3 وحتي الآن عبر ثلاث انتخابات حزب العدالة والتنمية ذو الميول الإسلامية الحكم منفردا بزعامة رجب طيب أردوغان. وهذا يعني أن حزب العدالة والتنمية حكم تركيا فعليا لما يقرب من ربع تاريخ الدولة الديمقراطي, وبذلك أصبح أطول حزب حاكم في تاريخ الجمهورية التركية. وقد منحت تلك النجاحات هيمنة كاملة تقريبا للحزب علي الميدان السياسي التركي من خلال التعيينات في المحاكم العليا والجيش والنظام البيروقراطي, إلي جانب النفوذ المتزايد علي الإعلام ومنظمات المجتمع المدني ومجتمع الأعمال. ونظرا لأن أصول حزب العدالة والتنمية ضاربة بجذورها في المعارضة الإسلامية, فإن السؤال الذي غالبا ما يظهر علي السطح يتعلق بما إذا كان الحزب سيستخدم صلاحياته المهيمنة لأسلمة الدولة, وتحويلها إلي دولة تطبق الشريعة الإسلامية. ويشير العديد من خصوم حزب العدالة والتنمية العلمانيين إلي السياسات الثقافية للحزب, السائرة نحو ذلك الطريق. ربما ظن قادة حزب العدالة والتنمية أنهم, بالخمسين في المئة التي نالوها في الانتخابات النيابية قبل سنتين بالضبط, يمكن لهم أن يتحكموا في مصير وتطلعات وهواجس الخمسين في المئة المتبقية. وإذ استتر العدالة والتنمية بورقة توت الديمقراطية, فإن الديمقراطية ليست ولم تكن يوما مجرد عملية ميكانيكية رقمية تنتهي بفوز الأكثر عددا. الديمقراطية لا تعني طغيان الحزب الفائز, بل أن يحترم المكونات الأخري التي لم تعطه أصواتها, لا سيما أن تركيا بلد متعدد الانتماءات العرقية والدينية والمذهبية, وبلد منقسم بحدة علي نفسه أيديولوجيا. لم يعد المتظاهرون الأتراك يشعرون بالخوف في مواجهة قمع الشرطة. وكشفوا عن عمق قناعتهم بإصلاح الديمقراطية في بلادهم ومنعها من التراجع. والدرس الكبير هنا, أن الديمقراطية ليست قدرا محتوما, أو تطورا طبيعيا للمجتمعات تمليه حركة التاريخ وتوق الشعوب إلي الحرية, ولذا يجب دائما التعامل معها كمعطي قابل للانقلاب علي نفسه بسبب جملة من الأسباب, الأمر الذي يحتم استمرار اليقظة في الحفاظ علي مكتسبات الحرية وفي الوقت نفسه مواصلة النضال من أجل مجتمعات أكثر انفتاحا واحتراما لحقوق الإنسان. خبير في الدراسات السياسية والاستراتيجية