قد يتصور البعض من عنوان المقال أن القضية تمثل اجترارا للمطالبات اليومية من جميع الأطياف التي ترنو إليها كأهداف علي الصعيد السياسي أو تكرارا لنظرية المؤامرة التي باتت إحدي مفردات الاستهداف في المشهد الوطني , بيد أن الأمر لدي مجرد وقفة لالتقاط الأنفاس والاستبصار ليس بمفهوم استراحة المحارب بل برؤية المصري المغرم بمصريته والوطني المتيم بوطنه. أي أنها بالأحري حالة رومانسية من حق الوطن علينا أن نبثه إياها خوفا وشغفا, ذلك أن الوطن ككيان حي من حقه علينا أن نربت علي كتفه نبصره بمخاوفنا ونعلمه بطموحاتنا ونفكر معا مليا وبصوت مسموع كيف نحول ما نبثه إياه من مشاعر إلي واقع مأمول وكيف نحول دونه وما يمكن أن يستهدفه في خفاء الليل, وذلك من خلال رؤية فوقية لمحاور الدولة الأربعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية. والواقع أن الجميع يعلم بعد يناير أن ثمة طموحات لا سقف لها زمنيا وموضوعيا قد باتت حديث الساعة وكل ساعة كان أهمها قضية التفكيك والتركيب المؤسسي التي شغلت جميع القوي, وتسارع الجميع بخطي التمكين اللائحي والبشري لضمان النجاح. وقد كانت الأهداف في ذاتها وردية حالمة بدستور راق ونواب فعليين وانتخابات شفافة وحقوق مشروعة للجميع في بناء الوطن الجديد. بيد أن استهداف هذه الأحلام قد حال دون تحققها مع علو نبرة المطالبة بالمشاركة لا المغالبة والذي دار المجتمع معها في دوامة بلا نهاية نالت من تركيز كل الأطراف, وهكذا بات الاستهداف السياسي واحدا من المحاور التي طوقت الوطن. وقد تأثرت بالاستهداف السابق وبحكم الاستطراق السياسي الأوضاع الاقتصادية التي لم يسلم منها المجتمع فرادي وجماعات وكانت معطلات الانتاج علي مشروعية بعضها سببا في ضياع ما كان بين أيدينا ليضيف عبئا علي الموازنة وضعفا في البنية الاقتصادية علي هشاشتها أصلا. وأصبح الهدف الرئيسي للإقالة من هذه العثرة هو السعي الحثيث للاستدانة التي ذكرتنا بتاريخ صندوق الدين الأسود مع فارق بسيط أن استدانة الخديو إسماعيل كانت في عدم توازن تكاليف مشروعاته العملاقة مع الدخل أما استدانة اليوم فترتبط بتوفير الحد الأدني للدخل من أساسه. ولكون الموضوع مرتبطا بمن هم خارج الحدود فلم يخف علي فطنة أحد تدويل القضية مع( نيو لوك) جديد ليصبح استهداف الوطن من السهولة بمكان, ولو سلمنا جدلا أن لا ضغوط ولا تسييس فمن سيتحمل وزر تحميل أجيال عبء سداد دين لن يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس. أما الخطورة الآنية فهي في إستدامة الأزمة أو بالأحري شيطنتها إذ يظل الناس علي معاناتهم ومن ثم اعتصاماتهم التي تضرب الاقتصاد في الصميم, ويظل الحل الأسرع في المزيد من الاقتراض دون الوفاء بجميع المتطلبات لتبدأ دورة أخري وهكذا دواليك.. ولتنزوي أهداف الاصلاح الاقتصادي أمام متطلباته التي لا مفر منها وهي الأخطر إلحاحا, لا سيما عندما بدأ الناس يرددون أسماء بعض رجال الأعمال وكأن بهم الخلاص متناسين أن ثمة فارقا بين الاقتصاد والتجارة لكون الأول منظومة لمقدرات دولة والثاني جزء من تلك المقدرات. أما إجتماعيا فلا يزال الوضع علي ما هو عليه وعلي المتضرر اللجوء لحلول ذاتية, هذا المبدأ هو السائد في جميع مناحي الحياة التي تتسع فيها الفجوات بين الفئات والتي انعكست بدورها علي البناء القيمي للمجتمع بعدما إنساحت معايير القيم بضياع مفهوم الرمز وتجاوز الحدود علي جميع المستويات, وتصور البعض أن الثورة في ذاتها إنما تعني حق التدمير لا حق التعبير. وإذا كانت ثورة1952 قد جعلت من أهدافها تذويب الفوارق بين الطبقات فأحسب أن مفهوم العدالة الاجتماعية كهدف لما بعد25 يناير قد ضل طريقه في غمرة الصخب السياسي والفشل الاقتصادي. وأحسب أن استهداف الوطن من هذه الزاوية كان أيسرها تناولا وفعالية من القوي المختلفة من منطلق استثارة أحقاد الماضي أو إشاعة اليأس من حاضر لم تبد له ثمة ملامح للمستقبل. ورغم النجاح المضمون في هذا المحور إلا أن أية قوة علي الساحة لم تبادر بحلول عملية ومشروعات تضمن لها التأثير المباشر في مقدرات الناس الاجتماعية مكتفية ببرامج تطرح علي من لا يقرأ وبوعود لم تتجاوز القاعات الميكروفونية حتي صار الأمر وكأنه مرتبط بضرورة توسد مقدرات السلطة في توجه يسعي لحل فوقي لا حل قاعدي. وهو الأمر الذي بات يشكك في مصداقية أي طرح ويعمق من شعور اللامبالاة الذي درج عليه المجتمع مع فارق جوهري أنه قبل يناير كان الأمر يرجع لاحتكار الوصاية علي الشعب بمفهوم الإقصاء وبعد يناير كان بسبب كثرة الأوصياء وبذات المفهوم ليتراجع الشعب في خلفية المشهد وبمحض إرادته. أما علي مستوي المحور الفكري بكل أبعاده الأيديولوجية والمعتقدية فقد عبرت النخبة عن الواقع المتضارب بقدر تضاربها مع الواقع, ولم تشهد المحروسة هذا الكم من الاستعداء الديني والتناحر الفكري مثلما شهدت ولا تزال في هذه الفترة. ورغم أن الهدف الأسمي للطليعة المثقفة تقوم علي الإقناع إما بحجية المنطق فكريا أو بقوة الاستدلال النصي دينيا إلا أن استهداف الوطن من هذه الزاوية قد جعل من سدنة العقل والوجدان شيعا وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون أو بالأحري هنا متناحرون. ليخسر الوطن أهم محور كان يمكن أن يعول عليه لتعدد منطلقاته وثراء أطروحاته وتباين قدرات أفراده. ويبقي السؤال القديم المتجدد, وهل من حل في الأفق أو حتي نقطة إنطلاق وسط ضبابية المشهد وركامية المطروح.. بالطبع القضية لا علاقة لها بحلول سحرية لكون أحدنا لا يملك عصا موسي. وأحسب أن البداية تقتضي تواري وجوه كثيرة بات حديثها قرين الإفلاس والتعويق كي تفسح المجال لأهل الاختصاص الحقيقي الذين تشهد لهم دراساتهم وأبحاثهم التطبيقية ذات الحلول العلمية غير التقليدية, والذين لا يسعون لسلطة ولا ينضوون لفئة إذ أن ولاءهم الحقيقي للعلم بعالميته وحياديته وللوطن بأهدافه السامية وحضارته الراقية. ولنا في ماليزيا ومهاتير الأسوة والقدوة واستنهاض الهمة وفي جنوب إفريقيا ومانديلا المثل والنموذج في استبصار الهدف والرمز, ولنا في ذواتنا من قبل ومن بعد القدرة ومن حنايا تاريخنا عمق الرؤية لتبقي فقط الرغبة الذاتية في التغيير الحقيقي وما عداها سيظل يتردد معه النداء الشهير في رائعة شيء من الخوف عن زواج عتريس من فؤادة..!! (إشراقات السعدي): من أسوأ الأمور علينا أن نكتشف أن من تسلموا أوراق اعتمادنا لا يقرأون!!