يخطئ كثير من المراقبين في مصر عندما يقارنون بين ماتشهده السلطة القضائية خلال الشهور الأخيرة من تضييق من قبل النظام الحاكم, وبين ماتعرض له القضاة في ستينيات القرن الماضي, واصطلح علي تسميته مذبحة القضاة في العهد الناصري. وربما تكفي مقارنة بسيطة بين الحالتين لتبيان ذلك البون الشاسع بين ماجري في بواكير ثورة يوليو, ومايجري حاليا علي يد نظام جماعة الإخوان, إذ أن إجمالي من قام النظام الناصري بعزلهم حينذاك لم يزد علي40 قاضيا, كانوا في حقيقة الأمر من أبناء كبار الاقطاعيين, وعلي خلفية أحكام كانوا يبيتون النية عليها, تتعلق بإعادة الأراضي التي قام نظام الزعيم الخالد جمال عبدالناصر بنزع ملكياتها من كبار الاقطاعيين, وتوزيعها علي صغار الفلاحين, فيما عرف بمشروع الإصلاح الزراعي, وما كان يعنيه ذلك من طرد هؤلاء الفلاحين من الأراضي التي وزعتها الثورة عليهم. كانت أزمة القضاة مع النظام الناصري في حقيقتها أحد أبرز تجليات الصراع بين ثورة يوليو والقوي المنتسبة للنظام الملكي السابق عليها وقد لعبت هذه القوي دورا كبيرا في إفساد العلاقة في مرحلة من المراحل, بين عبدالرزاق السنهوري باشا, أحد أكبر اعلام الفقه والقانون في مصر والوطن العربي, وبين الزعيم الراحل جمال عبدالناصر, لتدخل العلاقة في مراحلها الأخيرة إلي ساحة صراع بين القانوني والثوري, قبل أن ينجح الأخير في حسمه لصالحه بإبعاد الأول عن الساحة القضائية. بلغت الأزمة بين الطرفين ذروتها في العام1969 في أعقاب ماتردد حول سعي النظام حينذاك إلي تشكيل ماوصف ب تنظيم سري بين القضاة, لكن ذلك لم يمنع تنامي تيار الاستقلال داخل نادي القضاة, الذي ظل علي مدار عقود يتبني موقف الدفاع عن العدالة واستقلال السلطة القضائية, في مواجهة أي نظام حاكم, حتي لو كان هذا النظام, برئاسة جمال عبدالناصر ويستند فيما يتخذه من قرارات إلي شرعية ثورية, تستهدف تحقيق مبادئ وأهداف أعظم ثورة شهدتها مصر في عصرها الحديث. ربما لايختلف كثيرون حول عهد مبارك باعتباره الأسوأ, فيما يتعلق بالعلاقة بين مؤسسة القضاء في مصر والنظام الحاكم, وقد تجلي ذلك في العديد من التظاهرات التي خرجت للتضامن مع القضاة, في معركتهم ضد قانون السلطة القضائية الصادر في عام2006, بل وخروج القضاة أنفسهم إلي الشارع في سابقة هي الأولي من نوعها, وهم يرتدون الأوشحة. المؤكد أن التاريخ المصري لن ينسي ولن يغفر لجهاز أمن مبارك, كيف تعامل بتلك القسوة المفرطة مع القضاة, والتي بلغت حد سحل أحدهم أمام مقر نادي القضاة في شارع عبدالخالق ثروت, وماتبع ذلك العدوان الهمجي من إجراءات غاية في البطش, تمثلت في إحالة المستشارين هشام البسطويسي ومحمود مكي إلي التحقيق أمام نيابة أمن الدولة العليا, وإحالتهما بعد ذلك إلي لجنة الصلاحية, وهو الأمر الذي تسبب في انفجار موجة من الاحتجاجات الشعبية الواسعة, قادتها حينذاك حركة كفاية وغيرها من القوي السياسية, ومن عجب أن الرئيس مرسي نفسه كان واحدا من الذين جري اعتقالهم في تلك الفترة ضمن نحو500 ناشط آخرين, بتهمة التضامن مع القضاة! ويحار المرء كثيرا عندما يبحث عن سر ذلك العداء الذي تحمله جماعة الإخوان للسلطة القضائية في مصر, رغم أن القضاة كانوا أول من أنصف الجماعة في عقود المطاردة والتضييق, ويحار المرء أكثر عندما تطالب الجماعة الجميع بأن يصدق أنها تستهدف من وراء مشروع قانون السلطة القضائية الجديد, تطهير القضاء في مصر, وهي التي سمحت قبل شهور بالاعتداء علي أعلي سلطة قضائية في البلاد, بحصار المحكمة الدستورية العليا, في خطوة غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث والمعاصر. تخطئ الجماعة كثيرا عندما تتصور أن بإمكانها الاستمرار في خداع المصريين, فالجميع بات يعرف الآن جيدا, أنها في طريقها لتنفيذ مخطط واضح للهيمنة علي السلطة القضائية, لكن لا أحد يمكن أن يسمح بذلك. لقد كانت جماعة الإخوان نفسها هي أول من عارض مطالب الثورة في بواكيرها بضرورة صدور تشريع يتعلق بالعدالة الانتقالية, يمكن من خلاله إجراء محاكمات حقيقية وجادة لمبارك ورموز نظامه, علي ما ارتكبوه من جرائم في حق الوطن, ويمكن للشعب من خلاله القصاص لدماء الشهداء,لكنها اعتبرت صدرو مثل هذه التشريعات من شأنه أن يفتح الطريق أمام محاكم استثنائية, حتي إذا وصلت إلي السلطة سارعت إلي استخدام نفس الأسلوب, ليس بهدف تحقيق أهداف الثورة, وإنما للتمكين لنفسها في السيطرة علي مفاصل الدولة, وهو حلم يجب أن تعرف الجماعة قبل غيرها أنها تراهن علي حلم بعيد المنال.