الاتهام الذي يوجه إلي الدول النامية من قبل بعض الغربيين ومن تابعهم من ذوي الأفهام الضعيفة مؤداه أن هذه الدول النامية لا تعترف بالجد والعمل والنظام والاجتهاد.... وأن المنتسبين إليها يعتمدون علي القضاء والقدر والاذعان بأن قوي البشر في قبضة أمور غيبية ميتافيزيقية, ومن هنا نراهم يرضون بالكسل ويرتاحون إلي الدعة والسكون!! ومثل هذا التصور يمثل حكما جائرا علي هذه المجتمعات.. فالاعتقاد بالقضاء والقدر يكون حكما جادا وسليما إذا تحرر من شناعة الجبر, تتبعه صفة الجرأة والإقدام وإيجاد الشجاعة والبسالة ويبعث علي الثبات واحتمال المكاره ويتحلي أفراد هذه المجتمعات بحلي الجود والسخاء, ويدعوهم إلي بذل الأرواح في ظل إطار من القيم الدينية والأخلاقية, والرضا الذي نقصده يتمثل في أن العمل والجد والاجتهاد وما يصاحبها من قيم دينية وأخلاقية من أهم عوامل الشعور بالرضا, لأن نتاج العمل الجاد ينعكس علي النفس براحة ورضا... فليس الاعتراف بالقضاء والقدر محكا للتأخر أو مصادرة علي المطلوب من إشباع للدوافع, ولكن معاودة البحث ومطارحة المسائل من أجل الانطلاق في مجالات العمل بوعي وفهم ودراسة دون التقيد إلا بما يمليه المنطق الأخلاقي من أصول فكرية وما يتطلبه الوعي من توظيف للقيم الدينية والأخلاقية وفقا لمنهج علمي سليم هو سبيلنا إلي الشعور بالرضا. ويعد الاحساس بالرضا مطلبا من المطالب المهمة الذي يسعي إليها الانسان ويهدف إلي تحقيقه, ويعتبر هذا الاحساس من وجهة نظر المشتغلين في مضمار الصحة النفسية ملمحا من ملامح الشخصية السوية تعتمد عليه وتتصرف وفق هداه وإرشاده, حيث يشعر الانسان الفرد بمدي انعكاس هذا الشعور بالرضا علي سلوكياته وتصرفاته. وقد يحتار العقل البشري في ظل زحمة الحياة المادية وما يصاحبها من ضغوط وسرعة ولهفة, وتتبلور هذه الحيرة من خلال الاندفاع الرهيب لاقتناص الفرص والحرص الشديد علي تحقيق المنفعة المادية بأي شكل من الأشكال. والحق يقال إن الكثيرين قد يتوهمون في سبيل امتلاك هذا الشعور بالرضا فيرون أن الحياة هي الاشباع المادي فقط, وإن السعادة هي( الرفاهية) فانعكس هذا التصور الواهم علي تصرفات البعض فلم يعد هذا البعض يري من القيم سوي جانبها النفعي, وقد يتأكد لديهم الوهم ويتجسد ويتبلور في أن الشعور بالرضا يرتكز علي مدي إشباع الانسان الفرد لهذه الحاجات المادية!! وهناك من يرفض أن يتشبث بهذا السعي المستمر وراء الماديات وعقد الصفقات وتكوين شبكة من العلاقات المبنية علي المنفعة المتبادلة بعيدا عن إطار القيم... مثل هذا الانسان الرافض لخوض المعركة المادية بما فيها من مهاترات وصراعات يضع لنفسه إطارا من القيم يعيش عليه فإذا به يشعر بالرضا لأن إفرازات هذا الشعور نابعة من ذاته مبنية علي إرادة واعية تحدد ما تريد وترفض ما لا تقتنع به. ويلاحظ أن الانسان من هذا الصنف لا يرفض ما رفضه إلا اعتمادا علي تقييمه للأمور وحرصه علي أن يحتفظ بالقدر المتبقي له من الكرامة في زحمة صراعات الحياة المادية. وهناك من يرفض الدخول في صراعات الحياة المادية هروبا وانسحابا لأنه لا يملك لعجزه وقلة حيلته إلا أن يرضي بما هو متاح وكأن من شأن عقله حين يستبد به الكسل أو حين يقعده التواكل عن مواصلة الجد والاجتهاد أن يقنع بما هو متاح ولا يري في الإمكان أفضل مما هو كائن!! وتزداد المسئولية بالنسبة للمشتغلين في مضمار الصحة النفسية ويصبح عليهم أن يعملوا علي إثارة الهمة وشحذ العزيمة, وإعادة الاتزان, وتخفيف حدة الصراعات... ويلاحظ أن محاولات علماء الصحة النفسية تعتمد أساسا علي مدي توافر الشعور بالأمن وانعكاس هذا الشعور علي تصرفات الأفراد, وكيف أن هذا الشعور في وفرته يؤدي إلي سلامة الأداء وحسن التصرف والتفاعل مع الظروف بدقة ومرونة وحرية, وبطبيعة الحال لا يتمتع الانسان بهذا الشعور إلا عندما يزداد إحساسه بالحرية والتسامح العقلي والرغبة الدائمة في الحوار مع الآخرين, ولن يتم الشعور بالرضا ما لم يكن هناك هذا الشعور بالحرية والتسامح العقلي والرغبة الدائمة في الحوار مع الآخرين. ولن يتم الشعور بالرضا ما لم يكن هناك هذا الشعور بالحرية الذي يتبعه يقين بأن الحق فوق القوة, واعتراف بأن العلاقات البشرية ينبغي أن تقوم علي التفاهم والتسامح لا علي التخاصم والتنازع وأن شبكة العلاقات الاجتماعية السليمة هي التي تهييء للبشر أن يتنازلوا عن روح العنف والشدة لكي يستعيضوا عنها بروح التفاهم والمودة Affection. وعندما يكبر الانسان وتزداد تجاربه اليومية وما يواكبها من خبرات من خلال المواقف المتعددة وما تفرزه من آلام ومعاناة وإنجازات ونجاحات... والانسان الفرد بين هذه العوامل يرضي ويتبرم, ويضيق وينبسط ويفرح ويحزن... إلي جانب ما يتعلمه من خصال قد ترتقي إلي مستوي القيم أو تنخفض إلي منسوب الرذائل وهو يحاول إذا أراد لنفسه أن تبلغ شأوا في مضمار الفضيلة أن يهذب من دوافعه ويكبح جماح غرائزه, أو يحاول أن يعيش حياته ضاربا عرض الحائط بكل القيم لأنه يري متوهما أن كفاءة الانسان الحقيقية إنما تتجلي من خلال الاستمتاع الحسي الذي يشعر صاحبه بالرضا والمتعة والهدوء والاتزان, والدعوة مستمرة والاحساس بالرضا يتزايد عند البعض ويقل عند الآخر ومع الزيادة والنقصان تتكون المشكلات وتتزايد وتطرح الأسئلة: * لماذا لم يعد الأفراد يحبون بعضهم كما كانوا؟ * لماذا طغت المادية علي الجوانب الروحية؟ * لماذا تضعف الهمة والعزيمة بسهولة؟ * ما الذي حدث لنوايا الناس في تعاملهم مع بعضهم البعض؟ * لماذا أشك دائما في صدق الآخر ومساعدته لي؟ * ما الذي حدث لقيمة الحب وما يصاحبها من مودة وتفاعل؟ * هل هناك من يمكن أن يسمي صديقي الوفي الذي أعتمد عليه؟ * هل صحيح أن الدنيا قد( قل) فيها الخير وازداد الشر؟ * لماذا ضاعت المروءة والشهامة في زحمة المنفعة الشخصية؟ * ما العوامل التي أدت إلي شيوع النفاق والتزلف؟ * وهل هناك من يشعر بالرضا تماما؟ وهذه الأسئلة تمهد لنا الطريق إلي أن نسأل ما الذي يجعل الانسان لا يشعر بالرضا الكامل, ولعل الاجابة أن كل فرد يسعي إلي الشعور بالرضا... إلا أن هناك بعض العوائق والمشكلات التي تطرح أمام الأفراد ولعل أهمها: * الاحساس بالظلم.. هذا الاحساس يمثل عائقا أمام الشعور بالرضا * عدم تلبية المطالب الأساسية التي يحتاج إليها الفرد في حياته. * عدم الحصول علي العمل الملائم الذي يوظف قدرات الفرد ويقدم له الحوافز والدوافع لكي يكون منتجا وفعالا. * ضعف المنسوب القيمي والأخلاقي مما انعكس علي ظهور العدوان وأساليب العنف الذي أدي إلي الانهيار وعدم الشعور بالأمن النفسي والأمن الاجتماعي مما أثر علي الاحساس بالرضا. * عدم الاستماع الواعي بموضوعية للرأي الآخر وانعدام الحرية الفكرية والثقافية, مما أدي إلي انتشار المخاوف المرضية وعدم الشعور بالرضا. * عدم الحرص علي الانجاز والعمل الجاد والابتعاد عن دوائر الابتكار والابداع. * عدم وجود القدوة الصالحة التي تعمل ابتغاء مرضاة الله مسترشدة بالمفهوم الأخلاقي الواعي والصادق وتعمل لصالح الفرد وصالح المجتمع والوطن. هذه الأمور وبعضها كثير تنشر عدم الشعور بالرضا لأن من يرضي علي هذه القضايا فهو يسهم في انتشار الشر الذي بدأ ينشب أظافره الحادة في نسيج المجتمع, فالانسان يشعر بضرب من ضروب التصدع وعدم الرضا, ويكون شقيا وتستبد به عوامل الشعور بالنقص والحرمان والألم والملل والمرض.. وبطبيعة الحال ينعكس كل ذلك علي شعوره الأخلاقي فيحوله من مستوي الانسان الذي ينبغي أن يتطلع إلي وضع اجتماعي مرموق من خلال الفكر والعلم والإخلاص في العمل إلي مستوي الانسان الذي يفكر بطريقة خبيثة بغيضة, لأن دوافع الشر المتربصة به تحيطه من كل جانب بأخطار شريرة تدفعه إلي الكسب غير المشروع, وتحرمه من أن يفكر في تقديم الخدمات السليمة والايجابية والبناءة للوطن العزيز الذي نعيش بين جوانبه لأن مصرنا الغالية فوق كل اعتبار بإذن الله تعالي. هكذا يكون الشعور بالرضا بعيدا عن التسلط والبطش والقمع.. وإن الرضا لمن يرضاه بعيدا عن هذه الأساليب غير السوية... ومن ير ان الاحساس بالرضا يعتمد علي القمع والقسوة فإننا نقول له إن هذا السلوك العجيب يجعلنا نشعر بأننا قد حكمنا علي أنفسنا بالنفخ في قربة مقطوعة!! رابط دائم :