الليل.. والصمت.. وضوء القمر ينام علي صفحة الماء الساكن.. وشجرة عجوز تلقي بأغصانها في ماء النيل.. وبين لحظة وأخري تظهر فقاعة ماء بلا صوت تأني من الأعماق.. وشعاع القمر ينعكس بضوء خافت.. يظهر شبح يقف ويسير علي الماء أمامي ويتحرك ببطء حتي لا يحدث أمواجا تؤرق وحدتي.. وأحسست بشيء ما ينظر إلي في الظلام.. تحسه ولا تراه.. ورفعت رأسي فوجدتها وعرفتها.. صديقة عمري.. والنظرة أصبحت غريبة.. والرؤية مليئة بضباب كثيف لا تلمحه ولكنك تشعر به وهو يلف المكان. * لماذا لا تبكي؟! جاء صوتها الحزين يسألني.. يحثني علي البكاء.. أنا أبكي بلا دموع.. وأحزاني فوق طاقة دموعي.. ياصديقتي العزيزة!! * الموت حق!! أعرف.. وأؤمن!! * هو الفراق وآلامه يا صديقي!! فراق الأصدقاء.. فراق الفنان.. فراق الزمالة.. فراق السنين.. فراق الأضواء.. فراق الحياة الغريبة التي يعيشها الفنان في رحلة الشقاء.. ذلك الفراق التراجيدي الذي تنتهي به حياة الفنان.. رحلة عذاب لا يراها ولا يعيشها غير الفنان.. الدخول إلي شخصية والخروج منها عذاب.. القلق الفني الذي يعانيه الفنان بعد كل عمل.. الخوف من الفشل ومن النجاح.. الرعب الكامن في الأعماق.. الجهد الخارق للإبداع.. العمر المسروق مع دوران الكاميرات.. العلة المجهولة التي يعانيها من ذلك الفن.. ويخفيها عن العيون.. المقاومة القاتلة التي يفرضها الفنان علي نفسه ليقف أمام الجمهور.. أو يسجل إبداعه علي شريط سينمائي.. وفي النهاية يرحل.. فجأة يرحل.. ولا اعتراض علي الرحيل.. فهو حق إلهي.. يؤمن به الجميع. * الكل إلي رحيل.. ولكل إنسان ميعاد.. وتبقي الأعمال ليكملها الآخرون.. هذه سنة الحياة.. وحكمة الإله!! ومر أمامي شريط الرحيل.. وآخرهم نجمان رحلا في الوقت نفسه.. ولهما مشوار طويل في إسعاد الجماهير بالرضا والسعادة والابتسام الدائم عندما يشاهدونهما.. وحيد سيف.. ونبيل الهجرسي.. وكأنهما كانا علي موعد الرحيل معا بإذن الله.. ورأيت في شريط الراحلين أعمالهم تملأ أشرطة السينما والتليفزيون.. والمسرح.. وأصواته تملأ آذان المستمعين حبا وجمالا.. باقية أعمالهم تذكرنا بهم دائما.. ولا أنسي ذلك النجم الذي طلب من زوجته مصحفا وأخذ يقرأ منه آيات الرحمن.. وطلب أولاده ليراهم.. والتف حوله أولاده بعد أن قاموا من نومهم.. ينظرون إليه في صمت الإيمان حتي رحل ذلك الفنان.. علي الشريف.. وغيره من النجوم كبارا.. وشبابا.. رحلوا وهم يتلون الشهادة إلي مثواهم الأخير.. وأحسست وأنا أشاهد شريط الرحيل بدموعي الساخنة التي اندفعت من عيني وهي تحرق وجهي!! وأزاحت الدموع التي اندفعت من عيني سحب الضباب من أمامي.. ونظرت إلي مكان الفراشة التي طلبت مني أن أبكي.. وكانت تقف أمامي.. وأتحدث إليها.. فلم أجدها!! وتركت المكان الحزين.. وفي اليوم التالي جاءت شمس جديدة.. ونهار جديد.. وحركة للحياة تجبرنا علي الحياة.. والزمن يدور.. والكاميرات تدور. وصمت صديقي النجم.. بعد أن روي لي ما حدث له.. وسمعت صوت المخرج وهو ينادي عليه من بعيد.. وسار النجم بسرعة إلي حيث الدوامة التي يعيشها الفنان.. وصاح المخرج: حركة.. وبدأت الحياة تدب في الاستوديو من جديد!!