مهما كان اختلافنا الحزبي فالمنتظر أن نرحب جميعا بإعادة المحاكمات لقتلة الثوار فالمجني عليه في هذه القضية ليس فردا بعينه بل شعبا بأكمله. ولا يزال الفاعل حرا طليقا, وفي حريته انتهاك لحرمة الدماء التي سالت من أجل مصر, واستهانة بصيحة شعب خرج عن بكرة أبيه إلي ميدان التحرير ليقتلع خيام الفساد ويحطم أوتادها. وسواء اتفقنا أم اختلفنا في إعادة المحاكمات والتحقيقات فلا ينبغي أن يكون اتفاقنا أو اختلافنا مبنيا علي عصبيات حزبية أو صراعات سياسية, فالشعوب المتحضرة لا تجعل من صراعها الحزبي والسياسي عدوانا علي حق الدولة أو كرامة شعب, وقد رأينا أحزابا في دول كثيرة تلتقي عند غاية واحدة إذا تعلق الأمر بالمصلحة العليا للبلاد, وأعتقد أن الشعب كله في لحظات الصدق مع النفس هتف بصوت واحد مطالبا بالثأر من قتلة الثوار والمتظاهرين, ولكن لما صدر الحكم ببراءة المتهمين عده فريق من المصريين انتصارا لميوله الحزبية متجاهلا أن لدماء الثوار حقا في أعناق الجميع.. ومهما تكن ملابسات الحكم أو حيثياته فذلك شأن القضاء وهذا لا يصادر حق الثوار الأحرار الذين غضبوا لأحكام كانت في مجموعها صدمة عنيفة لإرادة شعب سقط أبناؤه قتلي بأيد آثمة, والقاتل في نظر القانون مجهول بعد براءة المتهمين ودخول القضية في غموض وتعتيم مما أدي إلي إثارة الهواجس ونزع فتيل الأمان من الألغام المزروعة في الصدور, وكان أخطرها بطبيعة الحال أن كتائب الحرس القديم قد أعاد إليها هذا الحكم شعورها بأنها الأقوي وأن الثورة ليس لها قانون يحميها ومن ثم بدأ التجمع في الخنادق المحصنة للعمل علي إجهاض الثورة بكل قوة, ليس رغبة في عودة مبارك كما تصور السذج بل طمعا في الابقاء علي نظامه تحت قيادة جديدة ربما أطلت برأسها في تلك الأجواء.. ودخلت البلاد في فوضي لم يعرف مثيلها في تاريخ مصر, وتساقط الضحايا في كل مكان حتي انشغل الناس عن قتلة الثوار لكثرة المصائب ونزيف الدم المستمر, وصارت المطالبة بدم الثوار مجرد لعبة استخدمتها الأحزاب في صراعها السياسي. وغاب عنا جميعا في زحمة الأحداث والمنافسات المتتابعة أن الاستهانة بالدماء في ثورات البلاد الداخلية من الجرائم التي لا يمكن نسيانها بل تظل في حركة الشعوب كالنار تحت الرماد إذا لم تجد قصاصا عادلا يشفي الصدور, وأعتقد أن فينا من يعرف أن الاستهانة بدم عثمان رضي الله عنه جرت الأمة كلها إلي فتن وكوارث وصارت المطالبة بدمه سببا في صراعات حزبية وخطر مستمر حتي قال علي رضي الله عنه: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض وهنت يوم قتل عثمان فصار مثلا يضرب لكل من يقتل أخاه فيستهين بدمه. وقد كادت الثورة تؤكل لما أكل الثوار وغاب القصاص وقد كان العرب يعتقدون أن روح القتيل الذي لم يؤخذ بثأره تظل تطوف بأهله مطالبة بالثأر والانتقام في شكل شبح كانوا يسمونه الهامة ومع أن الاسلام أنكر هذه الخرافة وحارب السلوك الهمجي في الانتقام والثأر فلا يزال لدينا اعتقاد بأن الذي قاد العرب إلي هذه الفوضي هو أن حياتهم خلت من قانون حاسم يفصل في هذه القضايا وارتضوا لأنفسهم قانونا يرفع شعار البقاء للأقوي ولهذا لم تسلم حياتهم من همجية العدوان علي الأرواح الا بعد أن جاءهم الاسلام بعقوبة القصاص ولكم في القصاص حياة فاطمأن الجميع إلي القصاص العادل وسلمت الدماء من العدوان عليها وذلك لثقتهم بأن عدالة الإسلام لا تترك قاتلا بلا عقاب أو قصاص ولا تسمح بأن تستباح أرواح الناس بشهادة مزور أو ملفق فإذا بدل الشاهد شهادته أو غيرها صار مطعونا في شهادته فلا يعتد بها في الحكم بل كان القاضي المسلم لا يري بأسا ولا يشعر بالحرج في إعادة النظر في حكم قضاه بالأمس ثم تبين له وجه الصواب. وهذا ما قاله عمر رضي الله عنه لقاضيه إلي موسي الأشعري ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلي الحق فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ولكن الأمر يكون أشد خطرا عندما تتباطأ العدالة في القصاص من قتلة ثوار أستبيحت دماؤهم وهم يطالبون برفع الظلم عن البلاد.. وليس من المعقول أن يظل الفاعل مجهولا, والأحزاب مشغولة بثرثرة فارغة, وحرب باردة, والشعب حائر يترقب أن تخرج العدالة عن الصمت المخيف إلي محاكمات وتحقيقات جادة تحفظ لثورة البلاد هيبتها وتصحح مسارها.