الذي يعيش في الظلام الدامس يتطلع إلي النور الذي يحول هذا الظلام الحالك إلي نور يهديه ويرشده.. لأن العيش بين جوانب الظلام حالك السواد ويدعو إلي التوتر, ويدفع إلي الاضطراب النفسي, ومن هنا كانت الرؤية المعتمدة علي النور والهداية هي الرؤية الصحيحة لأنها تعتمد علي النور والضياء والاشراق وعندما صنع الفرد حياته المتحضرة ظنا منه أنها تمثل راحته وسعادته ولكن الذي حدث ان الانسان قد أصبح أجوفا أو محشوا بمعطيات الحضارة المادية يتساند بعضه علي بعضه, وقد امتلأت رأسه بالهشيم, وأصبحت أصواته جافة عندما يتهامس وتبدو عندما يتكلم هادئة في اصطناع لا يكسبها المعني كحفيف الريح علي العشب الأخضر, أو كوقع أقدام علي زجاج متكسر في حجرة بالية مهجورة لا مظهر لها ولا شكل, لا ظل ولا لون, قوة مشلولة حركة دون سير, نشوة بلا حيوية أو تفاعل يشعره بانسانيته والسؤال الآن: من الذي صنع لنفسه القلق والتوتر؟ أليس الانسان الفرد هو الذي اختار ان يجتاز مرحلة الخيال لكي يحاول ان يقبض علي الحقيقة بجمع يديه ويزعم لنفسه أنه ليس في الحياة سوي البداهة والوضوح واليقين والنظر العقلي الخالص, ومن هذا المنطلق أخذ يخترع ويبتكر ليؤكد ذاته.. دون أن يعطي بالا للأخرين!! لقد أغفل هذا الانسان الفرد المولع بالمعطيات المادية الحضارية ان هذا الاندماج قد كتب نهايته, وأن هذا الجري اللاهث وراء حلم تأكيد الذات في المستقبل قد أوقعه في خطر التجريد دون أن يدري.. فكان الصراع والضياع والملل والسأم.. واحتار الانسان الفرد في أمر نفسه بعد أن أغرقها في بحر الحضارة المتلاطم الأمواج وبدأ يعلن عن شكواه ويحاول أن يستأجر بمعطياته المادية بعض النماذج البشرية التي تفكر له, وتحسب له وتشرح له, وتري له كل ما يريد أن يراه دون تعب أو وجل أو إرهاق!! هكذا يكون الضياع الحقيقي للانسان الفرد سجين المعطيات الحضارية فهو لايعمل, يفكر ولاينجز,يقترح ولايتابع ينتقد ولايقدم الاصلاح, فهو يريد أن يكون رساما دون أن تكون لديه فكرة اللوحة التي قد يعبر عنها من داخل أعماقه ويتخيل كل خطوطها وظلالها, ويريد أن يكون الشاعر الذي لاتوجد لديه كل خطوات القصيدة أو فكرتها او حتي يستشعر رنين كلماتها في آذانه, أو حتي يحس بدوران معانيها في رأسه! هكذا يكون ولي النعمة الحضارية الجوفاء يريد ولايقدر...اللهم ماقد يمتلكه من مال أو جاه أو وسائل ترفيهية تعطيه الكسل وتعلمه الدعة والسكون كأنه يرقص فوق الأشلاء, ويشعل القناديل المرتعشة, ويضيع وقته منقادا الي اسطبل الطاعة الحضاري ان الضياع الذي بدأ يستشعره بعض الأفراد في زحمة إنغماسهم في الحياة المادية بمعطياتها الحضارية العجيبة إنما هو مجرد تعبير عرضي مؤقت عن حالة( التشيؤ) في عصر التكنولوجيا الآلية المتقدمة, ولكن بمجرد أن ينجح الانسان في السيطرة علي الضرورة الطبيعية,فانه سوف يجد نفسه مضطرا الي السيطرة علي الضرورة الاجتماعية ومايتعلق بها من مباديء وقيم والتزام ومسئولية وتعاطف وتواصل حميم بينه وبين الانسان الآخر. إن الضرورة الاجتماعية تلزم الإنسان الفرد الواعي بمقدراته كانسان ان يري بوضوح ويدرك بامعان ويتدبر كل الأمور المتعلقة بحياته واستمراره السوي مؤديا دوره في الحياة. وإذا كان الإنسان الراقي هو ذلك الذي يسعي جاهدا الي أن يعيش مع الأمل والحب ففي الأمل الحياة ومع الحب الاستمرار السليم فانه لابد وأن يري من خلال عيون الآخر تلك البسمة المشرقة المعبرة عن حياة أفضل وقيم أسمي ومباديء أعظم فليس هناك أمام الانسان الراقي إلا أن يبحث عن خيمة في قلب الآخر المحب ليحميه من لفحة الرياح المادية العاتية, وليس هناك مايدعوه الي أن يسحب خلفه العقاب الذي يستحقه, لأن الانسان الراقي يعتقد في عفو الله, واذا لم يستطع ايمانه أن يبلغ درجة عالية فانه يستطيع علي الأقل حمايته من اليأس والقنوط الذي يمكن أن يعتريه من جراء الانغماس في المعطيات الحسية ومايتعلق بها من إران مادية تفقده الرؤية الحقيقية وتبعد عنه النور والأمل. وهكذا نري أن الشخص الفرد الذي حكم علي نفسه أن يعيش في ظل الليل حالك السواد, دون أن يعود نفسه علي الرؤية الصحيحة عندما حرم علي نفسه رؤية الآخر بمودة وصفاء, هذا الانسان قد عاش في عزلة واكتئاب فهو اذا حاول الكلام تسبقه دموعه وهو الذي يريد أن يقود زورقه في بحور الأخرين لينعم بأمواجهم الحانية وعواطفهم الجياشة, ولكنه في نفس الوقت يخشي من هذا الزورق الناحل لأنه يراه لا يقوي علي حمل أحزانه الثقيلة رؤية الآخر محك من المحكات الرئيسية التي تعتمد عليها الشخصية السوية لأنها إن صدقت وعبرت عنها قلوب صافية خرجت لتحقيق الوصال بين الانسان والآخر وتؤكد علي العلاقة الحانية المفعمة بالمودة والسعادة والوصال. وإذا كانت الحضارة وعوامل التمدن قد تجعلنا ننظر حولنا بطريقة خاصة فلا نري إلا كل شيء لامع فاننا في مقابل هذه الرؤية ندعي اننا قد بلغنا من الكمال والتمدن والتحضر ما يجعلنا نقنع بهذه الرؤية ولكن هذا التمدن الذي لا تغفله القيم الدينية والمودة الصادقة يستطيع أن يكشف الغشاوة عن هذه الرؤية المكدودة فتجعلني أري لك بإخلاص وثقة وتفاعل وصفاء. تلك هي مسئولية الانسان تجاه الآخر يري له بمودة ويدفعه إلي عمل الخير أما ذلك الذي أخذ من الحضارة إطارها الأجوف وبعد عن الاهتمام بالآخر وأغرق نفسه في قوقعة ذاته فإنه لا يقوي علي تحقيق الأمور التي لها قيمة شأنه شأن الذي يريد أن يقطع الطريق بخطوة واحدة, ولذلك تراه يتذرع بكل أنواع الحيل ليحقق هذه الطفرة السلوكية, ثم لا يلبث من خلال هذه( الوصولية) أن يشعر بتعب عدم استعذاب مذاق تحقيق الهدف الذي وصل إليه بالطريقة السريعة غير المألوفة لأنه اعتمد علي الطرق الملتوية والتصرفات الغريبة التي أغرقته في ظلام الليل. ان الانسان الواعي بقيمة الآخر يستطيع أن يتجنب ذلك الليل حالك السواد الذي فرضه علي أنفسهم بعض الأفراد عندما أغرقوا أنفسهم في الماديات وابتعدوا عن القيم الدينية الواعية, وهذا الانسان الواعي الذي يبحث عن النهار وما ينبثق عنه من نور وهداية واشراق هو ذلك الذي يعرف قيمة الآخر ويستطيع أن يري له طالما أن الثقة موجودة والقلوب صافية والأهداف متجانسة والحق راسخ والعدل سائد والقيم تهدي إلي الرشد والصواب والصراط المستقيم وهكذا ينبثق النور والنهار وينسحب ظلام الليل.