كان وسيظل بريق الحروب الصليبية هو الثورة المتقدة التي لا تخبو جذوتها في العقل الغربي والشرقي علي السواء, ذلك انها قد وسمت هذا العقل الغربي بذلك التعصب السافر والعدوانية المتجبرة. التي امتدت جولاتها الهادئة والساخنة حتي هذه اللحظة من عمر الحضارة الانسانية وأصبح يحال محوها أو تجاهلها لدي هذا العقل العربي الاسلامي الذي شكلت العقيدة داخله أسس منطلقاته وطرائق تعامله واحتكاكاته واصطدامه باعتبارها هويته التاريخية الخالدة وما أشد الصراع حين يكون صراعا دينيا حتي لو كان بين أصحاب العقيدة الواحدة ذلك من حيث طبيعته ونتائجه وآثاره الراسخة في الذاكرة بل في خلايا الذاكرة وشعابها, فما بالنا حين يحتدم ذلك الصراع بين عقائد مختلفة فيتأجج التعصب وتثار الحمية وتصبح حربا دينية تمتد لقرون وقرون وقد صار العنف الديني فيها هو البطل الأسطوري! نعم إنها الحروب الصليبية التي أفرزت بصمة تاريخية عريضة شقت الصف الانساني حتي ان التفكير في استعادته هو أضغاث أحلام, من ثم لم تخطي تلك المقولة الشهيرة التي اكدت ان الصراعات الدينية قد هدمت من الكرة الأرضية أضعاف ما هدمته الزلازل والبراكين ولعل بعضا من ذلك قد سجله أطلس الحملات الصليبية الذي نهض به الكاتب والمؤرخ سامي بن عبدالله المغلوث, وقد اعتمد في منهجه وفلسفته علي التوثيق في استحضار المادة النصية وبشكل مختصر, كما كان هناك نوع من تعزيز ودعم المادة العلمية بالعديد من الصور الميدانية الكاشفة عن الخريطة التاريخية والجغرافية عن مسرح أحداث هذه الحروب, اضافة إلي أن هذا الأطلس قد جاء مدعوما ولأول مرة بمجموعة من المنمنمات التاريخية النادرة لأحداث تلك الحروب كما جاءت في الآداب الأوروبية في العصور الوسطي وعصر النهضة فضلا عن بعض المرتسمات المعاصرة منتهيا إلي استعراض تقنية صور الأقمار الصناعية لبعض المواقع والمواضع المهمة والمرتبطة بأحداث تلك المرحلة والكاتب بذلك قد أخضع هذه الحملات وبعد قرون من انتهائها لآليات البحث الأنثروبولوجي المعاصر حين حاول تغطية القلاع الرئيسية التي لعبت دورا بارزا بل واستراتيجيا في تلك الحروب وقد ناقش الأطلس في موضوعية مطلقة كل الأسباب والدوافع الثابتة للحملات الصليبية معتمدا علي التوثيق التاريخي والمنطق الجدلي بين الشرق والغرب ذلك النابع من طبيعة الظرف الحضاري آنذاك. وقد أعلي من شأن بعض الدوافع كالاقتصادية والدينية علي الدوافع السياسية والاجتماعية في نشوء تلك الحروب باعتبارها تمثل دوافع مباشرة تتجاوز طبيعة غيرها كثيرا في مدي الفاعلية لإشعال الحروب التاريخية وقد تبع ذلك بحديث مطول عن تلك الحملة الشعبية التي مثلت الحملة التمهيدية لجولات الحروب الصليبية في أشواطها الثمانية والتي تعتبر جزءا حيويا منها إذ انها الدعوة الأولي التي انطلقت شراراتها من مجمع كليرمونت. وفي شرح مفصل وتحليل عميق كانت الاستفاضة في سرد تفصيلات ودقائق وطرائف الحملات الصليبية من الأولي وحتي الأخيرة والوقوف علي الأحداث المتجلية علي غرار حصار أنطاكيا واحتلالها وسقوط الرها وحصار طرابلس وسقوطها واحتلال بيت المقدس وقيام مملكة صليبية, ثم استرداد الرها وصمود دمشق ومعركة حطين واسترداد بيت المقدس وحصار عكا وسقوطها ومعركة ارسوف ووفاة صلاح الدين, ويجيء احتلال القسطنطينية بدلا من القدس وحصار دمياط ومعركة المنصورة الأولي واتفاقية يافا وتسليم الصليبيين ثم استرداد بيت المقدس مرة أخري علي يد الملك الصالح ثم يغزو لويس التاسع مصر وتدور معركة المنصورة الثانية وسقوط دمياط, واسر لويس التاسع ثم موقعة عين جالوت. * وفي الجولة الختامية للحملات الصليبية يدخل لويس التاسع قرطاجنة التونسية ويموت هناك, وتبدأ تصفية الوجود الصليبي في عهد بيبرس وأيضا في عهد السلطان قلاوون ويتم تحرير عكا في عهد الأشرف خليل وتلي ذلك تحرير آخر المعاقل الصليبية وخروج الفرنجة إلي جزيرة قبرص. * وينتهي هذا العمل الأطلسي إلي نتيجة مؤداها ان هذه الحملات انما كانت معبرا مهما من معابر الحضارة الاسلامية لأوروبا في انطلاقاتها العلمية والروحية والتي منها ابتكار جهاز الاسطرلاب, ورسم صورة الأرض وخريطة العالم للادريسي وكذلك ايضا خريطة العالم للقزويني وخرائط الجسم الانساني وغير ذلك كثير وكثير, لكن تعود الأهمية العلمية الكبري للأطلس في وجود العديد من الفهارس التي تخدم كل مرحلة في اطارها التاريخي, كما قدم الأطلس فهرسا خاصا للمنمنمات والمرتسمات النادرة ذات القيمة ومنها مرتسم أوروبي قديم يصور وحشية الصليبيين عند استيلائهم علي انطاكيا ومنمنمة اقتحام الصليبيين لبيت المقدس وخريطة فسيفسائية بيزنطينية رائعة تظهر القدس والأماكن التاريخية الأخري, ذلك اضافة إلي خريطة تصور حصار الصليبيين لبيت المقدس ومرتسم اوروربي قديم لمحاصرة الصليبيين لبيت المقدس ومرتسم أوروبي قديم ايضا لمعركة حطين ذلك بجانب مرتسم لصلاح الدين الأيوبي في الأدب الأوروبي القديم بجانب منمنمة هجوم الصليبيين علي دمياط ومنمنمة لمرصد فلكي اسلامي ونماذج لبعض الأسلحة التقليدية التي استخدمها المسلمون في حروبهم مع الصليبيين. وبعد قرون من عمر الحروب الصليبية تري أوروبا في هذه الحروب ما يستوجب الاعتذار للعالم الاسلامي وضرورة طي تلك الصفحات القاتمة في تاريخ الانسانية وتبدأ في الدعوة إلي حوار الأديان بل وتعتبره سبيلا للانقاذ وعصمة للحضارة في لحظتها المعاصرة وسموا بالواقع الانساني واقرارا جديدا بسيادة حقوق الانسان في ألا يكون التعصب للعقيدة مهددا لحقوق الأخر وذريعة للابادة والوحشية لكن هل كانت تقبل أوروبا اعتذارا مماثلا من العالم الاسلامي في حالة تبادل الأدوار؟ وما هي دوافع العالم الاسلامي لقبول ذلك الاعتذار والقضية تتجاوز حتي ما يفوق حاله الاعتذار الأبدي وترديد تراتيل التسامح والغفران؟ إنه علي العالم الاسلامي ان يعيد ترتيب مفردات القضية ويعرف ان التهاون والتفريط في حق ذاته يمكن ان يجر عليه حروبا صليبية أخري ربما تكون اشد ضراوة وقهرا وربما لا يتحصل بعدها حتي علي ذلك الاعتذار الا بعد قرون أخري.