ظهرت علي الشاشة مشاهد وكأنها موقعة الجمل, تعجبت وتصورت لوهلة انني أحلم, فقد كنت أشاهد التليفزيون الأيرلندي وأنا نصف نائم بعد يوم عمل طويل في جامعة ليمريك الواقعة في جنوب أيرلندا. استيقظت حواسي وانتبهت, ولفت نظري أن المشاهد مصورة بوضوح وتفصيل مختلف عن المشاهد الغائمة التي يعرضها التليفزيون المصري. علمت أن محكمة جنايات القاهرة قضت ببراءة جميع المتهمين في قضية الاعتداء علي المتظاهرين في موقعة الجمل. قرأت حين رجعت إلي الوطن, أنه قد جاء في حيثيات حكم البراءة, أن المحكمة لم تطمئن إلي أقوال الشهود في الدعوي, فقد خلت الدعوي من أي شاهد رؤية واحد تطمئن إليه المحكمة. تذكرت ذلك اليوم الكئيب حين اتصلت بمن أعرف أنه من العقلاء المقربين للحكام, وربما هو جالس في غرفة العمليات, أعربت عن قلقي وأسفي, واستحلفته بكل عزيز أن يعمل علي احتواء الانفجار, وأخبرته انني لم أنم ليلتي خوفا علي الدماء والأرواح, رد علي مكالمتي بتفهم وكلمات متعجلة: كلنا هذا الرجل, فهو وأنا والشعب المصري كله شهود علي تلك الجريمة ومحاولة تصفية الثورة. وتذكرت يومها صورة السيدة التي تحدثت مع مراسل قناة الجزيرة من قلب الميدان أثناء المعركة الدائرة في الليل, تساءلت السيدة والجزع يملأ صوتها أليس لدي رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية جهاز تليفزيون ليروا هذه المذبحة؟ ألا تعد تلك السيدة شاهدة عيان؟ الموقف يدعو للتعجب, فالجريمة وقعت تحت سمع وبصر الدنيا كلها, وشاهدها العالم بأسره لحظة وقوعها, وبثها علي الهواء مباشرة وسائل الإعلام المحلية والأجنبية, فضلا عن ازدحام الميدان عن بكرة أبيه بإناس مازالت حية, فكيف تعذر الحصول علي شاهد عيان واحد؟! وتذكرت حين جاء رئيس الوزراء في اليوم التالي( بالبلوفر) ووجه اعتذار بشجاعة( الرجال) لجميع المصريين, ليؤكد( بشرفه) أنه لم يعلم بالواقعة!! ويدور الكلام أخيرا عن أن مكتبه كان يعلم بما يدبر, بل أن تليفزيون الدولة الرسمي وجه نداء أو تحذيرا أو إنذارا إلي المتظاهرين أن عودوا إلي بيوتكم, فهناك أنباء عن هجوم علي التحرير!! ألا يمكن تتبع مصدر النداء للتعرف علي من دبر تلك الجريمة النكراء؟ وجاء في حيثيات الحكم أيضا, أن المحكمة اطمأنت إلي شهادة أحد العسكريين المسئولين الذي أكد أنه لم يرصد قتلي بميدان التحرير, فتذكرت ما أكده العشرات من شهود العيان والأطباء الميدانيين لوسائل الإعلام وفي نفس اليوم, عن وقوع قتلي وجرحي بالعشرات أثناء تلك الأحداث. وسألت نفسي, وماذا عن الطبيب الذي تحدث في حلقة من برنامج العاشرة مساء عن معايشته لوقائع تلك الليلة الحزينة, فحكي عن الفتي الجريح الذي عالجه والذي أصر علي العودة إلي قلب الميدان ثم رجع الفتي مرة ثانية إلي العيادة الميدانية صريعا, ألا يعد ذلك الطبيب شاهد عيان يجب الاستعانة بشهادته ليصبح الحكم عنوان الحقيقة؟ وماذا عن الأفلام الوثائقية وبها المشاهد المصورة للحظات الموت والعيون التي ينطفيء نورها ويرحل أصحابها؟ وماذا عن التقارير المصورة التي تحتوي علي مشاهد الجمال والخيول وهي تدخل الميدان وجنود الشرطة العسكرية ممسكين بأيدي بعضهم بعضا في صف طويل كأنهم يحرسون الهجوم. وهل تكفي شهادة سلبية( لشاهد ما شافش حاجة) لتكون ركيزة مهرجان البراءة للجميع؟ لا أدري لماذا تذكرت لحظتها من رفع يده إلي جبهته بالتحية لشهداء ثورة يناير فأبكانا, ثم أضاف إليهم شهداء وجرحي جددا في الشهور التالية ليستمر بكاء الثكالي والأرامل واليتامي. ولا أدري لماذا تذكرت أيضا من وعدنا بحماية الثورة التي نادت بالكرامة الانسانية فانقلب يعري فتياتنا ويكشف عن عذريتهن. وتذكرت من كسر عظام الشباب وسحلهم وضربهم ثم ذهب للاطمئنان عليهم في المستشفي فطردته فتاة شجاعة جريئة قوية رغم إصابتها وعجزها وضعفها رافضة الاستخفاف بالنفوس والعقول. لقد هوجم الميدان بالجمال والخيول والبغال والبلطجية والقناصة, وفعل هوجم مبني للمجهول, وفي أقوال أخري مبني للطرف الثالث, وهو بالقطع مضموم علي أفعال أخري خبيثة ولذلك حكم علي كل المتهمين بالبراءة. الغريب أن الجناة جاءوا علي ظهور الجمال ولم يجيئوا راكبين صراصير تختبيء في البالوعات ويصعب التعرف عليها, فالجمال وأصحاب الجمال وقرية الجمال معلومون للجميع, فهل كان يمكن تتبع خيط الجريمة والوصول إلي الحقيقة؟ الحقيقة الوحيدة الناصعة أن القضية ضاعت لأن النظام الساقط يحمي بعضه بعضا, فطمس الأدلة, وشوه البراهين, فهل يعقل أن يجمع المجرم أدلة إدانته في مخطط إجهاض الثورة البائس؟ جامعة الإسكندرية