هكذا صارت مصر. وهكذا تبدلت المواقف وتغيرت الأهداف, واصبحنا في مشاهد عبثية وصورة مؤلمة تنذر بعواقب وخيمة, وتحمل اشارات مخيفة تهدد الثورة بعد ان وقع المحظور وحدث ما لم نكن نتمناه وتحول ميدان التحرير والشوارع المحيطة أمس ولأول مرة منذ الثورة قبل عامين إلي ساحة للاشتباك والتراشق بالحجارة بين من هم كانوا أول من أشعل فتيل الثورة وضحوا بأرواحهم من أجل الحرية والكرامة فإذا بهم ينقسمون إلي فصائل يتناحرون ويتشاجرون واستبقت الحجارة التي تقاذفوها وسددوها نحو الرؤوس والعيون وحدة الصف واسقطت شعار الشعب ايد واحدة وفتحت ابواب فتنة جديدة تهدد مستقبل العملية السياسية برمتها وتعصف بفرص البناء والتعمير في توقيت يحاول فيه الوطن لملمة جراحه وشق طريقه إلي المستقبل. فتنة الميدان التي انفجرت أمس لم تكن وليدة مواقف لحظية أو رد فعل لقرارات محددة بل وقعت نتيجة حالة الاحتقان التي بدأت تتصاعد بين القوي الثورية المدنية وجماعة الإخوان. حيث تري الأولي أن أهداف الثورة تضيع وتعهدات الرئيس مرسي لم تتحقق, ونزلت الميدان للتعبير عن هذا الرأي, وقد كان من الحكمة عدم نزول شباب الجماعة في الميدان, وإذا كان لابد من ذلك فيجب أن يكون في ميدان آخر. أما الإصرار علي التظاهر في نفس المكان فلم يكن موفقا, وخرجت الجماعة وحزبها وانصارها ومريدوها من موقعة أمس بخسارة جسيمة تضاف إلي سجل خسائرها المتتالية في العمل الوطني واستنفدت جزءا كبيرا من رصيدها الشعبي ستكون له آثاره السلبية في المرحلة المقبلة. وربما كان حكم تبرئة المتهمين في موقعة الجمل وهم من رموز النظام السابق سببا في اشعال هذه الفتنة بعد أن رأي الثوار أن الدماء تحولت إلي ماء, والقصاص من القتلة بات أبعد مما كان, إلا أن هذه الفتنة تمتد نيرانها إلي العديد من المواقع والكيانات, وفي مفاصل الدولة. وما حدث بين القضاء ومؤسسة الرئاسة وملابسات إقالة النائب العام بقرار رئاسي ورفض تنفيذه بدعم من عموم القضاة, وجه آخر للفتنه ومأزق حقيقي يهدد كيان الدولة. وما حدث ايضا في التحرير هو نذر خطر سيكون أشد ضراوة إذا دخل المجتمع معركة الدستور بهذا التقسيم والتجزئ الحزبي, ومحاولات صناعة دستور تحكمه المواءمات الحزبية والدينية دون إعلاء لمصلحة الوطن, حينها سيحترق الجميع بنار الفتنة ويضيع وطن ثار طلبا للحرية والعيش بكرامة, ويقينا ان الثورة المصرية البيضاء هي التي ستدفع الثمن وأعداءها هم الرابحون بعد أن رأوا ابطالها يتقاتلون وتسيل دماؤهم في نفس الميدان الذي اسقط النظام, وبعد أن شاهدوا حراسها يتنازعون, وقادتها يتصارعون وانصارها يتخاصمون ويتفرقون, وها هي الثورة تحتضر تحت اقدام العابثين الطامعين الكارهين للحرية, وها هي أهدافها تضيع ومطالبها تهدر ومبادئها تنتهك ولا عزاء للشعب الصامد الصابر الذي لايزال يبحث عن الحرية.