في عرض ليل الجنوب الكل قاتل ومقتول يروي لنا الجنوبي عن ذكرياته في النجع وقصة الرحيل منذ الصغر, ويتمني ان يعود للحياة بين نخلاته العاليات وفي أحضان البيوت ودفء المشاعر, لكن ذكرياته تحملنا إلي عالم غريب تصعد فيه نخل إلي جبل ابو القمصان وتقفز فوق القبور في الظلام لكي تحقق حلم زوجها في الإنجاب وتسقط شوق في الرذيلة رغما عنها بسبب هجر زوجها للبلاد بحثا عن الرزق, وتقتل ولعانة ابنها بيدها خوفا من ان يقتله مطاريد الجبل المستأجرون من اشقائها طلبا للثأر, وحتي نور ابنة كبير النجع خريجة الجامعة تقع تحت وطأة التقاليد وتفقد حبها لان البت لابن العم ولو كان شيطان رجيم وتكتمل مأساتها بالختان وإصابتها بالجنون بعد ان فقدت جزءا من جسدها. قدم المخرج ناصر عبدالمنعم علي مسرح الغد بالعجوزة صورة تعبر عن نجع المؤلف شاذلي فرح وقصص عماته الأربع نخل وولعانة وشوق ونور في عرض مسرحي بعنوان ليل الجنوب واستضافت الفرقة القومية للعروض التراثية جريدة الاهرام المسائي في عرضها المسرحي وفي السطور التالية يحدثنا فريق العمل عن علاقتهم بشخصيات شاذلي فرح. قال المخرج ناصر عبد المنعم ان علاقته ب ليل الجنوب بدأت عام2011 أثناء رئاسته للمركز القومي للمسرح والموسيقي والفنون الشعبية, من خلال مسابقة توفيق الحكيم للنصوص المسرحية التي حصل فيها نص الجنوبي لشاذلي فرح علي المركز الثاني, مشيرا إلي أن النص لفت نظره لأنه يحمل رائحة من أعماله المسرحية السابقة التي شاركه فيها الدراماتورج الراحل حازم شحاتة أحد شهداء محرقة بني سويف , وهو ما جعل الدكتور حسن عطية يشير في مقاله النقدي عن ليل الجنوب إلي انها تمثل الرباعية في سلسلة أعماله عن الجنوب التي بدأت ب الطوق والإسورة ليحيي الطاهر عبد الله, وناس النهر للكاتب النوبي حجاج أدول, ونوبة دود كوم عن رواية لادريس علي وأعدها حازم شحاتة. وقال المؤلف شاذلي فرح أن سبب تغيير اسم العرض من الجنوبي إلي ليل الجنوب يرجع لخلط البعض بين نص الجنوبي ورواية الجنوبي للكاتبة عبلة الرويني عن الشاعر الراحل أمل دنقل, مشيرا إلي أن الكثير من أصدقاء ناصر عبد المنعم اعتقدوا انه بصدد تقديم اعداد للرواية وهو ما دعا فريق العمل للاجتماع وتغيير الاسم وتم الاتفاق في النهاية علي ليل الجنوب. أشار ناصر عبد المنعم إلي أن جرأة النص وتعمقه في المشاكل من أهم الاسباب التي جذبته للنص, لأنه ينبش في المسكوت عنه ويفضح فكرة التواطؤ بالصمت في مجتمع بأكمله, المجتمع الشكلي الذي يريد أن يخفي مشاكله وأفراده لا يقلقهم سوي نظرة الاخرين لهم بغض النظر عن الخطأ نفسه وحجم المشكلة, فهو يرفض مواجهة المشاكل ويسعي لاخفائها, مشيرا إلي لحظة بالغة الدلالة في ليل الجنوب تصعد فيها نخل إلي جبل أبو القمصان وعندما يقترب منها الشخص الذي يسكن الجبل ليغتصبها تدير السيدات الثلاث ظهورهن لها, وهي لحظة ملتبسة تظهر أيضا في رواية يحيي الطاهر عبد الله الطوق والإسورة وتشير إلي هذا النوع من التواطؤ بالصمت, فالقرية بأكملها تتواطأ وتصمت علي هذا رغم أن الجميع يعلم بالحقيقة. وقال لن نتقدم ولن ننهض الا إذا تخطينا هذه المعضلة وواجهنا مشاكلنا بشكل حقيقي مهما كانت صعوبتها لذلك كان لدي إصرار خلال مسيرتي الفنية علي تقديم عروض عن مشكلة النوبة وكل ما هو مسكوت عنه, نجيب محفوظ يقول وألمه الجرح فأمن انه أخذ في الالتئام, بمعني ان الألم هو بداية الشفاء, مشيرا إلي أن التقاليد متجذرة في الواقع, مثل الشجرة الضخمة التي تظهر في ديكور ليل الجنوب, والشخصيات المعذبة في العمل تمثيل لهذه التقاليد, مثل شخصية نور التي تحب مورجان النوبي في حين ان الاخير ممنوع عليه ان يتزوج من جورباتية أي غير النوبية, ونور الصعيدية لا يتزوجها الا ابن عمها فهي أشبه بمأساة روميو وجوليت وكأن الحب مرفوض والمشاعر ليس لها قيمة في هذه المجتمعات, مؤكدا ان دوره الفني هو الاشارة إلي مشاكلنا وطرح التساؤلات التي تدعونا للتفكير والبحث عن حلول, ولا يمتد دوره لمرحلة تقديم الحلول والا وقع في فخ المباشرة والخطابة, وهذا هو الفارق بين الفن والسياسة, الفن غير ملزم بتقديم الحلول لأنه دور الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني. ونبه إلي أهمية القضية التي يطرحها العرض عن قهر المرأة خاصة في هذا التوقيت ومرحلة التحول التي تمر بها مصر الان ولم تتضح ملامحها بعد, لأن الثورة قامت من أجل حرية الانسان والمرأة والمواطنة, ولابد من التأكيد علي حقوق المرأة ورفع القهر الذي يمارس عليها مجتمع الذكوري يتعامل معها علي انها وعاء وليست طرفا فاعلا في المجتمع, مشيرا إلي حالة التناقض في مجتمع الجنوب الذي يشهد هجرة الكثير من الرجال طلبا للرزق, بينما المرأة هي أساس المنزل ويقع عليها عبء تدبير نواحي الحياة وتربية الأبناء. وتساءل كيف تقدم المرأة التضحيات وتكون هي صاحبة الإدارة في هذا الجنوب الجاف وفي نفس الوقت تكون ضحية لرؤية متخلفة تقهرها وتضغط عليها بشكل يومي, مؤكدا انحياز العرض للمرأة وحقوقها كمواطنة وإنسانة. من جانب أخر اشار المخرج ناصر عبدالمنعم إلي انه يسعي لتقديم صورة مسرحية مختلفة عن النص لان النص الادبي يختلف عن العرض المسرحي لذلك اجتمع بالمؤلف شاذلي فرح في بداية العمل لاجراء بعض التعديلات ووجد تجاوبا كبيرا من جانبه. ونفي شاذلي فرح ان تكون هذه التعديلات قد طغت علي رؤيته الخاصة في النص وقال ناصر عبدالمنعم هو الاستاذ وعندما يحضر اكون تلميذا, بالطبع لدي وجهة نظري ولكن انا هنا مؤلف ولست المخرج, في أول بروفة كنت اتساءل كيف اتعامل مع ناصر صاحب هذا التاريخ الفني المميز واكتشفت انه شخص لطيف واستاذ بمعني الكلمة واضاف مازحا لكنه قدر يتسرب إلي واحدة واحدة, وفي النهاية وجدت النص أصبح شيئا ثانيا, وقال لي هذا هو نص العرض! مشيرا إلي انه قرأ في عام2001 لقاء صحفيا لناصر عبد المنعم قال فيه انه شريك للمؤلف في الكتابة وهو شريك له في الاخراج وهو ما وجده بالفعل اثناء العمل في ليل الجنوب, واعتبر نفسه من المحظوظين لان أول عمل له في مسرح الدولة من اخراجه, مضيفا انه لا يستطيع ان يعارض عبدالمنعم لأنه في رأيه كتيبة فنية تتحرك علي الأرض وتاريخ من العمل المسرحي وهما يتقاسمان عملا فنيا واحدا. واضاف ناصر عبدالمنعم ان العرض المسرحي يتكون من عناصر مختلفة وكل عنصر يضيف للعمل احساسا ورؤية وبعدا مختلفا, مثل الاضاءة والديكور والممثل ايضا يضيف للعمل والشخصية من ثقافته ووعيه وروحه وهو امر لا نجده في النص الادبي, لأن العرض المسرحي عبارة عن جسر بين خشبة المسرح والجمهور. وعن اختلاف التناول لشخصية الحباك بين ما قدمه شاذلي فرح في النص المسرحي وما قدمه ناصر عبدالمنعم في العرض, قال شاذلي فرح انه متعلق بشخصية الحباك منذ الصغر, لان الحباك في بلدته بكوم امبو كان يقطن المنزل المواجه لمنزله, وكان يضربه علي وجهه بشكل يومي ولم يعرف السبب, واكتشف بعد ذلك انه ينزعج من لعبه بالكرة, مؤكدا ان هذه العلاقة الغريبة مع الحباك خلفت بداخله الهواجس استطاع المخرج ناصر عبدالمنعم السيطرة عليها, وخرج من فكرة الحباك الذي يمثل القدر وسطوته علي البشر ليقدم نماذج مختلفة لقهر المرأة التي تسيطر عليها العادات والتقاليد. واشار ناصر عبدالمنعم إلي ان المرأة مقهورة في الوطن العربي ككل, ويجب ان نعترف ان القهر من صنع الانسان وليس القدر, لذلك تعددت الشخصيات التي تؤدي شخصية الحباك في العمل باعتباره الرجل الذي يحبك ويربط الحبال حول النساء, فالقهر ليس قدريا أو دينيا ولكن من صنع البشر الذين يحسبون أنفسهم وسطاء بين الرب والبشر, في حين انها علاقة خاصة بين العبد وربه لا تحتاج لوسيط يعرفنا علي ديننا, ما نحن فيه من صنع الفكر الذكوري, بدليل ما نسمعه الان من دعاوي لتخفيض سن الزواج. قام بدور يس ابن ولعانة في العرض المسرحي الطفل زياد إيهاب وعمره8 سنوات وهو ما يجعل فكرة الاخذ بالثأر منه في هذه السن الصغيرة غير منطقية, بينما كانت شخصية يس في النص الاصلي لشاب في السابعة عشرة من العمر, وبرر شاذلي فرح ذلك بأن العند في الصعيد لا يفرق بين طفل أو شاب لانه علي كل الأحوال سيقتل في النهاية حتي لو انتظره الثأر, وقال في ناس ولاد حلال بيحرضو أصحاب الثأر ويعايروهم طول الوقت, والممنوع في الثأر شئ واحد فقط وهو أخذه من امرأة, وشخصية يس في العرض ابن وحيد والقانون يطبق عليه سواء كان صغيرا أو كبيرا, وهناك حالات للأخذ بالثأر افظع مما قدمناه, فاحيانا ما يباع الطفل الذي عليه الثأر ضحية لبعض المعتقدات في الجنوب فالمقبرة لا تفتح الا بدم طفل, فيقتل الطفل فوق المقبرة وبذلك يكون صاحب الثأر قد حقق ثأره وفي نفس الوقت حصل علي مكسب مادي. واشار ناصر عبدالمنعم إلي انه قام باضافة مشهد ل يس في العرض بالاتفاق مع شاذلي لخلق حالة من التعاطف والحب بين المتلقي وهذه الشخصية وبهذه الطريقة يزداد شعور الجهور بعمق الفجيعة.