مازال السؤال قائما: لماذا نتعلم ؟' ومازالت الإجابات غائمة, ويبدو أننا نسير وفقا لنظرية القصور الذاتي والتي تقضي باستمرار الحركة الناشئة عن دفعة قوية, لكن مشكلتها أنها تتناقص حتي تصل للتوقف بعد حين, فيما يمكن أن نسميه الجمود, وهو ايضا مرحلة وسيطة يمكن ان تقود إلي التراجع. ولا يكفي الحراك الإيجابي والفاعل لمعالي الدكتور احمد زكي بدر, وزير التعليم, لتطوير وانقاذ المنظومة التعليمية, لأننا بصدد خلل يتجاوز الأشخاص, وهو محصلة تحول التعليم, عبر عقود خلت,الي حقل تجارب لا تستند إلي رؤية علمية في غالبها, فرحنا نحذف سنة دراسية ثم نعيدها, ونضغط مناهج ثم نعيد النظر فيها, نتبني شعارات براقة ثم نختزلها في سطور واعلانات علي جدران سور المدرسة, نعلن اقتحام العالم الالكتروني والكمبيوتر ثم نحوله إلي عهدة برقم وارد وصادر ونخزنها في مكان قصي وآمن بالمدرسة, يتجاور معها تلاميذ لا يفكون الخط وعلاقتهم مقطوعة مع جدول الضرب, نسارع بالدعوة الي الاهتمام بجودة التعليم فتتلقفها آلة البيروقراطية لتحولها الي قانون82 لسنة2006 يحيل الجودة الي اجراءات تتحول فيها المدرسة الي وحدة يجب ان تستوفي اشتراطات محددة اغلبها شكلي وروتيني, يذكرنا بما يحدث في الشركات والمصانع علي ارض الواقع لتحصل علي شهادة الأيزو, والتي تتحول الي عنصر إعلاني لضمان تسويق منتجاتها, وفيها يركز القانون علي صلاحيات وهيكلية الهيئة القومية لضمان الجودة, ويؤكد أن من مهام هذ الهيئة اصدار شهادات اعتماد للمؤسسات التعليمية وفق معايير محددة مادة4 فقرة7 ولمدة محددة مادة7 نظير رسوم اصدار بما لا يتجاوز خمسين الف جنيه!! مادة8, ويجوز التظلم من القرارات برسوم لا تتجاوز خمسة الاف جنيه مادة8, وربما لا تجد المدارس الخاصة والدولية والاستثمارية غضاضة في دفع هذه الرسوم لكن ماذا عن المدارس الحكومية خاصة في القري والنجوع ؟. ولعل السؤال: ما الذي طرأ من تقدم علي جودة التعليم بعد مرور نحو اربع سنوات علي صدور القانون؟, وهي في ظني فترة كافية لنلمس الثمار في الشارع التعليمي, أليس من ضمن المعايير توافر المعامل والمختبرات المرتبطة بعلوم الكمياء والأحياء والفيزياء؟, أليس من المعايير توافر الملاعب الرياضية والأجهزة الموسيقية التي تحتاجها مناهج التربية الرياضية والتربية الفنية التي تسهم في تفريغ طاقة التلاميذ وتربي فيهم قيم العمل الجماعي وقيم التنافسية النظيفة ؟, اليس من المعايير توافر مسرح مدرسي ينمي الابداع عند التلاميذ ويرقي بهم الي التفاعل الانساني الراقي المتجاوز للتطرف والطائفية؟, اليس من المعايير وجود مكتبة ثقافية وعلمية تضم كل الكتب التي تربي في التلاميذ ملكة الإطلاع والبحث ومن ثم الإبداع؟, وهل صحيح أن المكتبات قد حوصرت لتصبح مفرخة للتطرف لتبنيها توجها بعينه, مدعوما بمقولة ملتبسة ومفخخة هي الحفاظ علي ثوابت الأمة وهويتها؟. وهل صحيح اختفاء المسرح كمكان حتي في التصميم الانشائي للمدارس الجديدة وتحويله الي مخزن أو فصول في المدارس القديمة, ليس من باب البحث عن بدائل لاستيعاب الكثافة الطلابية بل لكونه' حرام' ولا يتفق مع قيم مجتمعنا وفقا لسعي اختطاف التعليم والثقافة لحساب مقاومي الدولة المدنية ؟. ومن يتابع شيوع العنف المجتمعي بصوره المختلفة يلمس ارتباطا وثيقا بينه وبين إنحسار الدور التربوي للمؤسسات التعليمية بعد أن تم الترويج لإعتبار الانشطة التعليمية المساعدة ترف يمكن الإستغناء عنه لحساب تحصيل الدروس, فتم تبعا لهذا تقليص مساحات الأنشطة الرياضية والفنية والثقافية, وفي بعض الأحيان الغاؤها تماما, الأمر الذي أدي إلي تقليص ثم إلغاء كل مكونات رقي الوجدان والحس الإنساني عند التلاميذ, فتحولوا إلي آلات صماء مطالبة بحفظ كم من المعلومات الجافة لإعادة افراغها في كراسة الامتحان اخر الفصل الدراسي بشكل ميكانيكي, افسدته علميا وتربويا المدرسة عبر نسق التلقين والدروس الخصوصية التي جارت علي هيبة المدرس وكرامته وامتدت لتدمر منظومة القيم في المجتمع. ومن المفزع ونحن نتحدث عن جودة التعليم المتوهمة, والتي لا محل لها إلا في تقارير المتابعة الوردية التي توضع علي مكاتب المسئولين, نقرأ في تقرير التنمية البشرية لعام2008 أن14,7% من الاطفال المصريين محرومين من التعليم, وأن الأمية الأبجدية مازالت تحاصر نحو40% من المصريين!!. ونستغرب من الأحاديث المتداولة بين المدرسين وفي اروقة مديريات التعليم والوزارة عندما يتأخر اعلان نتيجة امتحانات سنة دراسية ما أو شهادة عامة, أن السبب هو مراجعة النتائج لتعديلها برفع نسبة النجاح حتي لا يغضب المسئول الأعلي, وحتي لا يتهم المسئول المباشر بالتقصير في متابعة سير العملية التعليمية, وحتي يقف أمام رؤساءه ليشيد بحكمتهم وسداد سياساتهم التي أفرزت هذه النتيجة المبهرة,' بفضل توجيهات سيادتك يافندم'.!! وفي ظني أن جودة التعليم لن تتحقق إلا بمراجعة وتطوير الأركان الأساسية للعملية التعليمية: المدرس, والمنهج, والمناخ التعليمي المادي والمعنوي, والمدرسة كمكان وعلاقات بينية, والتلميذ, والانشطة التربوية المعاونة, واعادة الاعتبار لكرامة المدرس واعادة تأهيلة علميا وتربويا, ومراقبة التزامه المهني بعيدا عن انتماءاته السياسية والدينية بحسم وحزم, واعادة الانضباط للمدرسة داخل الفصول وخارجها بما لا يخل بحقوق جميع الأطراف. وقد يكون من المفيد قراءة رؤية محددة تطرح تصورات لحلول طرحها الأستاذ عبد الحفيظ طايل مدير المركز المصري للحق في التعليم, في ورقة بحثية مقدمة لمؤتمر التعليم والمواطنة ابريل2009 يري فيها: 1 التعامل مع التعليم علي أنه حق غير قابل للتسليع( أي عدم جواز اعتباره سلعة تخضع لاعتبارات السوق) وإعمال الأصل الحقوقي المتمثل في البنية الحقوقية الدولية ذات الصلة والكافلة للتنوع في برامج التعليم مع ضمانة توافرها للجميع بحسب الرغبة والكفاءة وعلي اساس التعليم الوطني. 2 تعديل كل التشريعات المحلية المتعلقة بالتعليم بما يضمن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. 3 تعديل النظرة الرسمية والمجتمعية للتعليم بالتأكيد علي كونه حقا لكل فرد واحتياجا مجتمعيا وضامنا لكل الحقوق الأخري للإنسان, وكفالة استقلال الاستراتيجيات الخاصة بالتعليم عن التوجه السياسي والاقتصادي لمؤسسة الحكم. 4 علمنة العلاقة بين التعليم والمؤسسات القائمة عليه. 5 تحويل وزارة التعليم الي وزارة سيادية. 6 رفع الميزانية الخاصة بالتعليم لتصل بنصيب الطالب إلي500 دولار في العام كحد أدني في مقابل160 دولارا الآن. 7 اعادة النظر في حقوق المعلمين والعاملين بالتعليم ورفع اجورهم بما يضمن تفرغهم للعملية التعليمية. ويبقي اننا بحاجة الي ثورة تعليمية حقيقية تنقلنا من انساق تقليدية عفا عليها الزمن لنتواصل مع القفزات العلمية الحضارية التي يشهدها العالم من حولنا وكما يقول احد الحكماء إن المفاتيح القديمة لا تفتح الأبواب الجديدة. [email protected]