أمام التلفاز, أشاهد الاحتفال الأسطوري لافتتاح دورة الألعاب الأوليمبية في عاصمة الأرستقراطية البريطانية. تتداعي الذكريات من طرفين, فلقد عشت فترة من شبابي في لندن, شهدت جامعاتها ومتاحفها ومسارحها وحضارتها التي انعكست في حفل الافتتاح, كما شاركت في الدورة الأوليمبية السابقة!! نعم شاركت رغم أن سنين العمر فرضت علي اعتزال الرياضة, ولهذه المشاركة قصة تستحق أن تروي. فلقد دعيت من منظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية( اليونيدو) في منتصف حقبة التسعينيات من القرن الماضي للانضمام إلي برنامج علمي دولي يتناول نوعا من البلاستيك يتم تصنيعه حديثا, ألا وهو البلاستيك المتحلل بيئيا. ويتم استحداث هذا النوع للقضاء علي تراكم نفايات البلاستيك في البيئة. فهذا النوع الجديد يمكن أن يؤدي وظيفته بكفاءة داخل المنزل أو في مكان العمل, ولكن ما إن يتعرض لضوء الشمس أو يدفن في التربة فإنه يتحلل بفعل الطاقة الشمسة أو حرارة التربة التي تكسر بعض الروابط المضافة إلي البلاستيك أثناء تصنيعه, فيتحول إلي مكونات صغيرة نسبيا تستطيع البكتريا الموجودة في الطبيعة أن تحللها وتفتتها وتحولها في النهاية إلي ثاني أكسيد كربون وماء, فينتفي التلوث من البيئة, بل ممكن أن يكون ذلك التحلل مفيدا للتربة ومغذيا للنباتات والمحاصيل الزراعية. تباحثنا في الأسس العلمية لهذا النوع الجديد من البلاستيك صديق البيئة حيث كان في طور التصنيع. ونظمنا مجموعة من الدورات والمحاضرات العلمية في العديد من الدول المنتجة والمستهلكة للبلاستيك, منها مصر, والبحرين, والإمارات, وقطر, والبرازيل, والهند, وأندونيسيا, وكوريا, والصين. كنا في جامعة فودان في شنغهاي بالصين, وثار السؤال, كيف الوصول إلي عامة الناس وإقناعهم بفائدة هذا النوع الجديد من البلاستيك وانعكاساته علي البيئة والنظافة, فضلا عن فوائده الأخري؟ وطرأت الفكرة, أنتم في الصين تنتوون تنظيم دورة الألعاب الأوليمبية, فلماذا لا تجعلونها دورة أوليمبية نظيفة ولا يستخدم فيها إلا البلاستيك المتوافق بيئيا؟ تحمسنا للفكرة وكتبنا التقارير وصغنا التوصيات, وسلمناها لمسئولي الجامعة, ورجعنا بلادنا, ونسينا الأمر. ولكن جامعة فودان لم تنس الأمر, رفعته كمقترح إلي حكومتها التي رفعته بدورها إلي اللجنة الاوليمبية. تلقيت في نوفمبر2007 م دعوة من اللجنة العلمية للألعاب الاوليمبية في الصين للمشاركة في اجتماع للخبراء للإعداد لدورة أوليمبية خضراء. ذهبنا إلي بكين فوجدنا الصين كلها تستعد لاستقبال هذا الحدث الرياضي المثير. تم الإعداد والتخطيط المحكم, فهناك سبعة ملايين زائر سيقيمون لمدة أسبوعين في مختلف أرجاء الصين يتابعون المنافسات الرياضية, فكم عدد الأكواب والزجاجات والأطباق والملاعق والشوك والسكاكين وغيرها وغيرها من أدوات البلاستيك سوف يحتاجون؟ المصانع الصينية بات لديها برنامج عمل مضن لتلبية كل تلك الاحتياجات المطلوبة بعد شهور تسعة. المثير أن الاستعدادات الفنية والصناعية, تواكب معها برنامج إعلامي تعليمي وصل لرجل الشارع وربة المنزل والطفل الصغير في المدرسة, فالكل أصبح يفهم معني البلاستيك المتحلل بيئيا دوره في الحفاظ علي البيئة والأوليمبياد. ناهيك عن الجولة التي قمنا بها في القرية الأوليمبية, فقد كانت مذهلة. الصينيون استثمروا الحدث فبنوا الملاعب الجديدة في الجامعات والمدارس لتبقي للشباب الغض متنفسا للتريض, وأداة إضافية لبناء الأجسام إلي جانب العقول. في الصين يتفاءلون برقم ثمانية. ففي الساعة الثامنة من مساء اليوم الثامن من الشهر الثامن في العام الثامن بعد الألفين تم افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية التاسعة والعشرين في بكين, وإعلانها دورة أوليمبية خضراء أحد أركانها أن البلاستيك المستخدم فيها متوافق بيئيا. كنا سعداء حين عدنا إلي بلادنا ومعنا ذكرياتنا الأوليمبية, ففكرتنا المتواضعة النابعة من مجموعتنا الصغيرة وشخوصنا الضعيفة تحققت, واستخدم البلاستيك المتحلل بيئيا في ذلك الحدث الرياضي الذي يشارك فيه العالم كله. لدهشتي جاءتني الدعوة في ديسمبر2008 م للذهاب إلي الصين مرة أخري, وتعجبت, ماذا بعد؟ ألم تنجح الأوليمبياد في أغسطس وانفض السامر؟ وكانت الإجابة علي حيرتي بسؤال من جانبهم, إذا كنا قد نجحنا في تنظيم دورة ألعاب أوليمبية نظيفة وخضراء, فلماذا نقصر النظافة علي هذا الحدث العظيم؟ لماذا لا نجعل الصين كلها نظيفة وخضراء علي مدار العام؟ ودارت نقاشات فنية متعمقة شارك فيها مسئولو البحث العلمي والصناعة والزراعة والبلدية وغيرهم, يتحاور الجميع للوصول إلي برامج تنفيذية. ولكن ما أبهرني حقا ثلاثة أشياء. * أولها تلك الارادة السياسية المصممة علي تغيير صورة الصين الملوثة بسحابتها السوداء الجاثمة علي سقف العاصمة إلي الصين النظيفة المضيئة المشرفة. تلك الإرادة السياسية تستمع وتسجل وتدرس وتنفذ. * ثانيها التخطيط العلمي واتخاذ العلم منهجا والخبرة مرجعا لتنفيذ برامج التطوير والتنمية. * أما الثالث فقدرة الفرد الصيني علي الذوبان في المجموع, فهو يعتبر أن نجاحه الشخصي مرتبط بنجاح الجماعة. ويعمل الصينيون معا بتناغم وسلاسة وقدرة هائلة علي تبادل العطاء. يومها رجعت من الصين ومعي ذكريات أوليمبية سعيدة, ولكني أيضا كنت علي ثقة أن هؤلاء الناس سوف يتصدرون العالم قريبا. وها هم يشكلون قوة اقتصادية وعلمية وسياسية وعسكرية ويتقربون حثيثا من قمة العالم. أستاذ بجامعة الإسكندرية