جلس عزوز يبكي علي السرير الخشبي المتهالك والوحيد في الغرفة التي يعيش فيها مع والدته وشقيقه حمدي, الذي يشاركه في نفس السرير, بينما تنام الأم علي الكنبة الموجودة بالصالة.. وضع عزوز يده علي خده وهو يتصور حياته بدون شقيقه حمدي الذي دفنه منذ قليل وأخذ عزاءه علي المقابر من نفر قليل من أهل القرية التي يعيشون فيها, بينما جلست والدته مع بعض النسوة ممن جئن للعزاء وهي تولول ناعية ابنها حمدي الذي لم يفرح بشبابه ولم تفرح هي به, ولم تر منه عائد وثمرة جهدها من أجل أن يستكمل تعليمه. تذكر عزوز رحلة المعاناة وأيام الشقاء التي عاشها هو وأمه منذ أن مات والده وتركه وشقيقه حمدي وأمهما دون عائل ودون أي مورد مالي يعيشون منه, مما اضطر الأم إلي أن تحترف مهنة الحياكة لبنات القرية التي يعيشون فيها واستعانت بما يرزقها به الله من هذا العمل علي تربيتهما, وبالكاد كان هذا الدخل يكفي المعيشة والمصروفات الدراسية. وبمرور الأيام زادت اعباء المعيشة وتكاليفها مما جعل عزوز بصفته الابن الأكبر يتحمل المسئولية ويتفق مع أمه علي ترك المدرسة ليعمل في مهنة المعمار, ويتكفل معها بتربية الأصغر حمدي حتي يستطيع الأخير استكمال تعليمه لعل الله يعوضهما فيه خيرا.. مرت الأيام وكان عزوز وأمه يشاهدان حمدي وهو ينمو ويكبر, وينهي المراحل المختلفة من تعليمه حتي تخرج في الجامعة. ومن بين دموع عزوز يتذكر يوم تخرج شقيقه في الجامعة فرحا يحدوه الأمل في أن يجد وظيفة مناسبة ليستطيع أن يرد جميل أمه وأخيه عليه ويعوضهما خيرا عن أيام العذاب والتضحيات, ولكن هيهات فليس كل ما يتمناه الإنسان يدركه, فقد تناثرت أحلام حمدي اشلاء في الهواء, عندما وجد نفسه واقفا في طابور العاطلين.. وأصبحت الشهادة الجامعية التي حصل عليه مجرد اقرار بضياع أكثر من16 عاما من عمره من دون عائد أو فائدة, ومع بقاء الأوضاع علي ما هي عليه, هاجمته حالة مخيفة من الاكتئاب. ومن بين زفرات الحسرة والألم يقول عزوز ان حمدي طلب منه أن يصحبه معه ليعمل بجانبه في كار المعمار حتي يساعده علي المعايش بعد أن اصابه اليأس من العمل بشهادته الجامعية, ويتذكر أيضا كيف انه حذره من خطورة العمل فوق السقالات خاصة انه لا خبرة له بالوقوف فوقها, ولكن الحذر لا يمنع القدر.. وأمام إلحاح حمدي, اصطحبه شقيقه صباح يوم عاصف برياح الخماسين ليعملا في عمارة حديثة يتم بناؤها. وقف عزوز بجانب حمدي يعلمه كيفية رص الطوب وحمله علي كتفه والصعود به علي السقالة وأخذ يتابعه بعينيه قلقا عليه مع كل طلعة له علي السقالة, حتي جاءت لحظة المأساة حيث جلس عزوز في ظل العمارة يستريح ويتناول كوبا من الشاي, حين سمع صوت ارتطام جسم ضخم علي الأرض أعقبه صراخ وعويل لصوت يقول: اطلبوا الإسعاف.. واحد وقع من علي السقالة يا رجالة. هرع عزوز إلي الموقع واخترق الزحام حول الحادثة ليجد نفسه في مواجهة شقيقه حمدي المسجي علي الأرض غارقا في دمائه فاقدا الحياة, أصيب لسانه بالشلل إلا من صوت متحشرج ينطق بين الحين والآخر قائلا:( حمدي, رد عليا يا حمدي, ياريتني ماسمعت كلامك) لكن حمدي كانت قد وافته المنية وحمله زملاؤه إلي منزله بعد ابلاغ اللواء ممدوح حسن مدير أمن البحيرة الذي أحال المحضر للنيابة فباشرت التحقيق وأمرت بدفن الجثة وتمت مراسم الدفن وعاد عزوز وحيدا إلي غرفته زائغ العينين يبحث في كل ارجاء الغرفة عن شقيقه حمدي الذي شاركه فيها أكثر من عشرين عاما, وازداد بكاء عزوز وتفجرت في نفسه براكين الغضب, وهو يتذكر كيف أن حمدي ضاع ضحية الفقر والبطالة!