كانت المعادلة الاقتصادية الصينية غاية في البساطة, الا وهي استغلال عدد السكان الهائل البالغ اكثر من مليار وثلث المليار نسمة والتدني الهائل في مستويات الأجور لإنتاج ارخص السلع في التاريخ, وبكميات غير مسبوقة علي مر العصور. فنصيب الفرد الواحد من الدخل القومي في الصين يبلغ الآن نحو خمسة آلاف دولار في السنة الواحدة حسب تقديرات صندوق النقد الدولي, فيما يبلغ نصيب الفرد الواحد في الولاياتالمتحدة اكثر من ثمانية وأربعين ألف دولار سنويا. هذا الرقم جري تحديده بالمنطق الحسابي البحت اي بقسمة اجمالي الدخل القومي علي عدد السكان في البلدين. لكن الحقيقة ان اجر العامل الصيني في شهر يعادل اجر نظيره الامريكي في يوم واحد فقط. وبهذه المعادلة الجهنمية تحولت الصادرات الصينية الي مدافع اقتصادية جبارة تدك بها بكين المعاقل الصناعية للدول الكبري. وعجزت الغالبية الكاسحة من دول العام عن منافسة السلع الصينية الرخيصة لأنه من الصعب ان لم يكن من المستحيل بالنسبة لأي عامل في اي منطقة اخري في العالم ان يعيش في نفس ظروف العمل العصيبة التي يعيشها العمال الصينيون. كما ان الدولة الصينية تعمد الي تخفيض سعر صرف عملتها كي تصبح اسعار صادراتها ارخص وأرخص. هذا كله شجع الشركات الصناعية من سائر انحاء العالم علي ترك بلادها والنزوح الي الصين التي تحولت بحق الي ورشة الدنيا الكبري. وجنت الصين من صادراتها عائدات بتريليونات الدولارت. وبلغت قيمة احتياطياتها الاستراتيجية اكثر من ثلاثة تريليونات دولار لتصبح بكين صاحبة اكبر احتياطيات مالية في العالم. كما استغلت الصين بقوة مواردها الاقتصادية الهائلة لتدوير عجلة ورشتها الاقتصادية بشكل جبار لتصبح المنتجات الصينية المدفع الاقتصادي الأضخم في وجه اي قلعة اقتصادية مهما بلغت قوتها. زلزال الأزمة المالية واستمر هذا الحال الي ان زلزلت الازمة المالية العالمية زلزالها في خريف عام ألفين وثمانية, وعندئذ استشعرت الصين ان ثمة خللا رهيبا في فلسفتها الاقتصادية الا وهو اعتماد اقتصادها المبالغ فيه علي التصدير للأسواق الخارجية ومن ثم فقد اصبحت من الناحية الفعلية تحت رحمة هذه الاسواق. وهكذا قررت الصين علاج هذا الخلل المروع بان عمدت الي بناء طبقة متوسطة قادرة علي استيعاب جانب كبير من الانتاج الصيني وذلك عبر العمل علي رفع اجور العمال كي تتوطد بالفعل اركان هذه الطبقة المتوسطة الصاعدة. فقد تركت الحكومة العمال والموظفين في الشركات العالمية العاملة في البر الصيني يتظاهرون ويحتجون علي اجورهم. وتقول وكالة رويترز في تقرير لها في هذا الصدد ان مايعرف بأزمة شركة فوكسكون تكنولوجي صارت واحدة من أكبر المؤشرات علي ان عهد السلع الرخيصة في الصين بدأ علي الأرجح في الأفول فكيف ذلك؟ فقد أعلنت شركة فوكسكون الدولية أنها ستشرع في رفع رواتب موظفيها وعمالها بصورة شاملة اعتبارا من شهر اكتوبر المقبل ليرتفع بذلك الراتب الشهري الاساسي لعمال الانتاج العاديين الي الفي يوان( اي مايعادل294.1 دولار امريكي). وأكدت الشركة انها ستقوم بزيادة رواتب موظفيها في مدينة شنتشن بمقاطعة جوانجدونج جنوبي الصين. وبناء عليه سيشهد نحو85% من الموظفين البالغ عددهم400 ألف شخص تقريبا بمصانع فوكسكون في شنتشن زيادة كبيرة في راتبهم الاساسي, علما بأن الشركة قد رفعت الراتب الشهري الأساسي لعمال الخط الأمامي من900 يوان(132.4 دولار امريكي) الي1200 يوان(176.5 دولار امريكي) في يونيو الماضي. وتهدف هذه الخطوة الي تحسين أوضاع1.2 مليون عامل من عمال الشركة في الصين يقومون بإنتاج أجهزة آي. باد وآي. فون لحساب شركة أبل الأمريكية. أرخص قاعدة تصنيعية ووصفت رويترز هذا التطور بأنه بمثابة مؤشر علي ان الصين تفقد الآن عرشها كأرخص قاعدة تصنيعية في العالم. والمسألة ليست اقتصادية بحتة وإنما لها جانب أخلاقي حسب وكالة رويترز, وهذا الجانب يكتسب قوة أكثر فأكثر عقب قرار شركة أبل الأمريكية وغيرها من الشركات الأخري غير المسبوق بالسماح بأكبر تحقيق علي الإطلاق في شكاوي العمال الصينيين من تدني الأجور وظروف العمل السيئة. وتقول رويترز إنه بعد سنوات من تآكل هوامش أرباح الشركات الأجنبية الكبري المتعاقدة من الباطن لتصنيع الأجهزة الإلكترونية التي يعشقها المستهلكون في شتي انحاء العالم في الصين مثل شركة فوكسكون التي تعمل من الباطن في الصين لحساب شركة ابل الامريكية , برهن هذا التطور( اي ازمة شركة فوكسكون) علي ان الوقت قد حان للشركات الكبيرة العاملة في الصين كي تتنازل عن جزء من أرباحها لمواجهة انتقادات بأن منتجاتها تبني علي أكتاف عمال صينيين يعانون من سوء المعاملة وتدني الأجور. ولعل هذا ما دفع جاي هوانج المدير المالي لشركة وينتك التايوانية التي تنتج شاشات تعمل باللمس لحساب شركة ابل والتي بلغت إيراداتها نحو ثلاثة مليارات دولار العام الماضي الي القول لقد انتهي عهد النفقات القليلة والعمالة الرخيصة في الصين. وأضاف يري الناس انه ينبغي ان تقدم السوق منتجات رخيصة وهذا كان يحدث في الماضي علي حساب العمالة الرخيصة في الصين وأوقات راحة العمال وظروف العمل. لكننا الآن نتفق جميعا علي ضرورة تحسين الأوضاع ونحن كشركة انتاجية لها اخلاقياتها يجب علينا تحسين اوضاع العمال. وقد حسنت بالفعل شركات في الصين اوضاع العاملين لديها حيث خصصت مثلا قاعات لمؤتمرات الفيديو حتي يتسني للعمال الاتصال بعائلاتهم. وقامت شركة اخري تصنع منتجات أبل هي شركة بيجاترون بتحويل عمال يقومون بوظيفة واحدة الي فرق متعددة المهارات. حتي لايصاب العامل الواحد بالملل جراء ممارسته نفس العمل طيلة عمره. وقد جاء هذا كله بعد ان اتفقت شركتا أبل الأمريكية وفوكسكون التايوانية علي علاج اي خلل في اوضاع العمال الصينيين الذين يقومون بتجميع الأجهزة الإلكترونية واسعة الانتشار للشركة الأمريكية. وقد وافقت فوكسكون التي تصنع أيضا منتجات لحساب شركات أخري منها دل و هيوليت باكارد وسوني علي هذه التنازلات بعد تحقيقات أجرتها رابطة مستقلة للعمال شملت ثلاثة مصانع و35 ألف عامل. وستعين فوكسكون وهي الشركة الأم لشركة هان هاي برسيجن اندستري التي تعد أكبر شركة لتجميع منتجات ابل في الصين عشرات الآلاف من العمال الجدد, وستتوقف عن فرض ساعات عمل إضافية بشكل غير قانوني وستحسن مستوي السلامة وسترفع مستوي أماكن إقامة العمال وسبل المعيشة الأخري. ليست الأولي وشركة ابل الامريكية ليست اول شركة كبيرة تستجيب لانتقادات بشأن الأجواء التي يتم فيها تصنيع منتجاتها. فقد أدخلت شركة نايكي للملابس الرياضية تغييرات كبيرة في التسعينيات بعد انتقادات مماثلة. إلا ان الاوضاع الاقتصادية واتجاه السياسة في الصين تشير الآن الي ان العمال أصبحوا قوة ذات ثقل كبير. وأصبح تنقل العمال من وظيفة لأخري للحصول علي أجر أعلي أمرا واردا الآن اكثر من ذي قبل. وتعهدت الحكومة بزيادة أجور عمال المصانع المهاجرين لتوزيع الثروة في البلاد بصورة أكثر عدلا وذلك خشية وقوع انفجار اجتماعي سياسي علي غرار الربيع العربي. وردا علي ذلك, تحول كثير من المنتجين لمناطق أرخص داخل البلاد للحيلولة دون ارتفاع النفقات. ونقلت رويترز عن تشي قانج تاو الاستاذ في كلية الاقتصاد والاعمال بجامعة هونج كونج قوله مايجعل الأمر مختلفا هذه المرة هو ان هناك أسبابا داخلية اكبر. وتابع قائلا في الماضي كان من يثيرون قضايا حقوق العمال في الصين من الأجانب مثل جماعات حقوق العمال الأمريكية, لكن القوة الدافعة الأكبر الان هي من داخل الصين وهي القوة التي تشمل ارتفاع سعر صرف العملة الوطنية اليوان والرغبة في تحقيق الانسجام الاجتماعي وإعادة توزيع الثورة. دور البيئة والتعاقد من الباطن! تعتقد القياداة الصينية الآن اعتقادا جازما بأنه يتعين التحول من الإنتاج منخفض التكلفة بعد ان تسبب في تلوث البيئة الصينية بشكل رهيب حيث أصبحت مياه أنهار كاملة غير صالحة للاستهلاك الآدمي أو حتي الحيواني. ويقول خبراء أيضا أن هذه المرحلة من تاريخ الصين الاقتصادي تشكل نقطة تحول للبلد ككل إذ انها تمثل جزءا من إستراتيجية عامة تتبناها الدولة وتهدف الي تعزيز الاستهلاك المحلي والاعتماد بصورة اقل علي التصدير للأسواق الخارجية. ولم يتضح بعد كم ستدفع الشركات الكبيرة للمتعاقدين معها من الباطن في الصين حتي يتسني لهم تحسين اوضاع العمالة. أرض الواقع ويقول مراقبون انه عادة ما تكون هناك فجوة بين حديث الشركات عن المسئولية الاجتماعية وبين الممارسات الفعلية علي أرض الواقع. وأوضحت إحدي نقابات العمال الأمريكية: في الماضي كانت هناك فترة وجيزة فضحت فيها هذه الممارسات وساد الغضب ما أدي لبعض الوعود. ثم عاد كل شيء كما كان. وقد أظهر تحليل لتكاليف انتاج جهاز بل اي باد تو اجرته شركة لأبحاث سوق الالكترونيات ان من النسخة التي تباع في متاجر التجزئة مقابل ستمائة دولار قد تتكلف مكوناتها اقل من ثلاثمائة دولار وتصنيعها اقل من عشرة دولارات مما يجعل نصيب شركة فوكسكون اقل من اثنين بالمائة من سعر التجزئة. ولعل هذا الامر هو ماقد دفع مراقبين الي القول بان هذه المشكلة هي مشكلة اجتماعية ولذا لاينبغي ان يقع العبء علي الشركة المتعاقدة من الباطن بمفردها خاصة وان الشركات المتعاقدة من الباطن مثل فوكسكون تعاني من تقلص هوامش ارباحها.