عبقرية مصر ليست قابعة في المكان كما يردد البعض لأنه قول ناقص ينتقص من قيمة الانسان المصري ودوره في تحقيق نهضته, فهو سر خلودها ووقود استمرارها وليس كما قال مزورو التاريخ ومروجو الشائعات, من أنه مستهلك ومستغل للطبيعة ولعطاياها ولم يذكروا أنه ضحية موقع وتاريخ وجغرافيا حكم عليه بقسوة, وانتقض من حقوقه عبر استعمار لم يدخر وسعا في أي لحظة من لحظات التاريخ من سلب هذا البلد, ولكن كيف لمصر الوطن بعبقريتها المكانية والزمانية أن تستعيد روح نهضتها؟ مصر المكان والزمان تمددت شخصيتها الوطنية في التاريخ, فكونت أعمدة أربعة حملوا وتنفسوا عبق التاريخ فأصبحت فرعونية يونانية رومانية, قبطية, إسلامية في الجغرافيا أصبحت إفريقية, عربية, شرق أوسيطة, وفي هذا يقول إستاذنا الجليل الراحل د. زكي نجيب محمود( مستحيل أن يجتاز المصري كل هذه الحضارات التي يكمل بعضها البعض دون أن يمتص رحيقها.. ومن بين ذلك الرحيق أن يفرق بين ما هو عابر وما هو دائم) ويعرف بذلك نفائس الاشياء فمصر هي تراب الأجداد وأمجاد التاريخ وملهمة الأمم فهذا ليس تكرارا ليمل القاريء بقدر ما هو تذكير بمكانة مصر لأن الذكري تنفع المؤمنين يكفيك أن تسير في شوارعها لتتنسم فيها عبق التاريخ الذي يجلي النفوس ويذيل غربة الأوطان, عبر حضارات اربع متعانقة ومتجاورة معا علي أرضها في حالة حوار ومناجاة عبر المتحف القبطي والإسلامي والروماني واليوناني, لا تتصارع لتتيقن بنفسك أن لعمران الزمان والمكان علاقة بعمار النفوس وعمران الجسد, فيجيبك ذلك عن سر اعتدال ووسطية رؤيتها للأمور وللآخر والتي تبلورت في الخلفية الدينية لمعظم المصريين التي تشبه الطقس المعتدل, فاجسادنا مثل بيوتنا بناء تسكن الروح فيه, فكما لنا من اسمائنا نصيب لنا أيضا من أجسادنا بيوت وعمارة تشكل حركة أرواحنا. فمصر العامرة منذ القدم كانت موطنا ومأوي آمنا للأنبياء والرسل التي آمنت بدعوتهم والتي علي أرضها عبد الأله, فمصر الأنسان هي محور اهتمامنا الذي قاد الثورات واخرها ثورة25 يناير, فهو الباحث عن اعمار الكون وتحقيق العدل كما أمره رب الكون ولكن في إطار من الحرية والإباء والكرامة, فأبحث عنه ستجده عبر قيمتين هما مصدر قوته: قيمة التعاون الذي لا يتحقق الا إذا كان الكل في واحد, وقيمة العمل وفق إدارة حكيمة تنشد العدل وتحققه وفي ظل هاتين القيمتين وتعلو الحياة في مصر وعند اهتزازهما تتوقف الرئتان فتجعل الصدر يتنفس حرجا كأنه يصعد في السماء, وعندها يتشرذم المجتمع شيعا وأطيافا وتنتشر الخطب الاستبعادية بين شركاء الوطن في هذه اللحظة ينتفض الوطن من مرقده ليعالج مكمن المرض( لأن مصر قد تمرض ولكنها لا تموت) من هنا أبحث عن مصر الانتماء والهوية الباحثة عن هويتها القومية التي قال عنها أفلاطون في كتابه( الجمهورية) ان توحدها وتماسكها هو سر استمرار وبقاء حضاراتها شامخة إلي الآن بالمقارنة بالحضارة اليونانية فإذا كانت قديما قد وحد النهر بين مختلف عناصر سكانها علي اختلاف عقائدهم وأقاليمهم فحديثا توحدت عبر مشروع قومي من صنع الانسان المصري وليس من هبات الطبيعة وهي قناة السويس والسد العالي لتتخلص من فكرة الحتمية والأسر الجغرافي والذي يعد تحولا جذريا في الثقافة المصرية وظهرت بشائره عبر الثورة لتمتد جرأة الحلم والأمل ليملا قلوب أبنائها من أجل التخلص من حتمية وأسر فكرة الحاكم الإله وفي هذه الاثناء كان نداء داخلي أو نداء من قوة ما وراء الطبيعة التي آمن به المصري طيلة عهده بمهنة الزراعة يقول له مجددا( ارفع رأسك فوق أنت مصري أرفع رأسك يا أخي فقد مضي عهد الاستبداد) في هذه اللحظة أستحلفك بحب هذا الوطن, اذا تملك هذا الشعور أن تتمسك به وأن تعاهد نفسك علي اكتساب الفضائل, وأن لا تتصيد الأخطاء لأبناء وطنك لأن حب الوطن غريزة فطرية للانسان فلا تمن علي الوطن بهذا الحب فهو فرض عليك وأعلم انك قد كسرت حاحزا نفسيا وسياقا فكريا بفضل هذه الثورة قد أحاطه المتربصون بالوطن لكسرك هاأنت تتصالح مجددا مع التاريخ وتعيد كتابة سطوره وتصحح مفاهيمه لتقول مجددا إن العبقرية الحقيقية تكمن في الانسان الذي يسخر المكان لخدمته وليس العكس وبهذا الفهم تأتي ثورة25 يناير لتضعك علي رأس المشهد السياسي ليس متفرجا أو تابعا لقرارات تملي عليك ولكن تكون مشاركا وصانعا لهذه القرارات والسياسات ولم تكتف عند هذا القدر بل تراقب وتتابع هذه السياسات من أجل تقويمها ومن ثم تغييرها اذا لم تلتزم بما قطعته علي نفسها من وعود وأهداف لدرجة جعلت الكاتب الكبير السيد ياسين يري أن ثورة25 يناير قد بلورت نموذجا جديدا للممارسة الديمقراطية تصلح أن تكون( نظرية مصرية ديمقراطية غير مسبوقة) تقوم علي دعامتين الأولي المشاركة القاعدية في اتخاذ القرارات, والثانية الرقابة الدائمة علي تنفيذ هذه القرارات, لقد بدلت الثورة الأدوار وأصبحت انت من تفرض قيمك عبر اختيارك لرئيسك وحاكمك وفق ما يحققه لك, فمن الآن أفرض قيمتك ومارس حريتك في إطار ينتهي عندما تبدأ حرية الآخرين أليس ذلك من انجازات ثورة25 يناير التي أرست مبدأ حق تقرير المصير كأحد مباديء حقوق الإنسان التي نصت عليها الأممالمتحدة لتعلي من قيمة عبقرية الانسان وانتصار للثورة لم يتحقق من قبل وهو ثمرة لكفاح المجتمع المصري منذ عقود.