أراضي الفلاسفة تنجز أكبر عملية إعادة هيكلة لديونها السيادية في التاريخ, لتبدو كما لو كانت قد ابتعدت خطوة عن شفير الإفلاس ولو إلي حين فما هي قصة أحدث فصل في دراما مديونية هذه الدول. التي قد ينذر تفاقمها بضرب المشروع الوحدوي الاقتصادي الأروبي في الصميم؟ قصة الانفراج القصة تبدو بسيطة رغم تعقيد مصطلحاتها, إذ وافق أكثر من ثمانين في المائة من دائني الدولة اليونانية من المؤسسات المالية الخاصة كالبنوك, وشركات التأمين علي التنازل طوعا أو كرها عن أكثر من نصف قيمة ديونهم. ولكن كيف ذلك؟. المسألة ببساطة أن أثينا دخلت في مفاوضات ماراثونية مع هؤلاء الدائنين, وهي المفاوضات التي انتهت بموافقة الطرف الدائن علي مقايضة ما لديه من سندات سيادية يونانية وهي السندات البالغة قيمتها مائتين وستة مليارات دولار بسندات أخري جديدة تقل قيمتها الاسمية عن هذا المبلغ بأكثر من النصف. معني هذا أن اليونان ستزيح عن كاهلها ديونا تبلغ قيمتها أكثر من مائة مليار يورو. لكن ماذا سيستفيد الدائنون في مقابل خسارة هذا المبلغ؟. تتمثل هذه الاستفادة في أنه بدلا من أن يخسر أولئك الدائنون كل أموالهم إذا أفلست أثينا, فإنهم سيحصلون علي دفعات نقدية مقدما, وعلي ضمانات رسمية من صندوق الإنقاذ المالي الأوروبي بسداد باقي مستحقاتهم, إضافة إلي اشتراط أن يكون من حقهم رفع أسعار الفائدة علي أثينا إذا لم تلتزم بتنفيذ خطط التقشف الاقتصادي الصارمة. أما المواطن العادي فيبدو الآن في وضع لا يحسد عليه, فقد سمع مرارا وتكرارا عن خطتي إنقاذ بإجمالي مائتين وأربعين مليار يورو, وعن صندوق أوروبي مزمع حجمه نحو تريليون دولار, وها هو يسمع الآن عن أضخم تسوية لديون سيادته في التاريخ, لكنه لم ينل من هذا كله إلا الدعوة إلي المزيد من شد الأحزمة علي بطون يتربص بها التشرد والبطالة والجوع. أسوأ سيناريو ولكن ماذا لو وقع أسوأ سيناريو يمكن تصوره في دراما الأزمة المالية اليونانية الراهنة ألا وهو انسحاب أرض الفلاسفة ومهد العقلانية الغربية طوعا أو كرها من نادي اليورو الرمز النقدي الأكبر لأضخم اتحاد اقتصادي في التاريخ الحديث؟. ولكن مع تفاقم سخط الشارع اليوناني ضد ما يعتبره إملاءات أوروبية, قد يطرح هذا التساؤل الآخر نفسه... فهل توجد أصلا آلية سياسية رسمية تحدد طريقة خروج هذه الدولة أو تلك من منطقة اليورو التي تضم في عضويتها سبع عشرة دولة؟ ثمة إجماع علي أن الآباء المؤسسين لنادي اليورو لم يكن يخطر ببالهم وهم يصيغون قبل تسعة عشر عاما معاهدة ماستريخت التي حددت قواعد الانضمام لهذا النادي... لم يكن يخطر ببال هؤلاء قط أنه سيأتي يوم تفكر فيه دولة عضو في الانسحاب من ناديهم الوليد. نتيجة ذلك أن أصبح نادي اليورو يتمتع ببوابة دخول, ولكن ليس له علي الاطلاق آلية خروج رسمية وهو الأمر الذي يعكس علي ما يبدو خللا هيكليا في البنية السياسية لهذا التكتل النقدي أو هكذا يقال. معني هذا أنه إذا قررت اليونان أو أجبرت علي الانسحاب فإنها ستنسحب من الاتحاد الأوروبي ككل وهو الأمر الذي سيشكل سابقة تبدو خطيرة... سابقة قد توسوس لدول أخري كي تقترف نفس الفعلة لتفلت من القيود الثقيلة لعضوية اليورو. هذا الأمر قد ينذر بتداعي الصرح الوحدوي الأوروبي الذي استغرقت عملية بنائه حوالي ستين عاما علي نحو قد يصيب الاقتصاد العالمي برمته بنكسة قد ينزلق معها في هاوية كساد من العيار الثقيل. وفي حالة انسحاب اليونان من منطقة اليورو, فإنها ستعمد علي الارجح الي العودة الي عملتها القديمة... الدراخمة ولكن في ثوب جديد.. دراخمة ستكون علي ما يبدو محدودة المصداقية, لتشهد الدولة أشرس موجة غلاء ربما في تاريخها ولتتجرع كرها دواء اقتصاديا اكثر مرارة من داء الديون ذاته وهو ما لا يحبذه الشارع اليوناني حسب استطلاعات الرأي. مرض عضال ولكن ماذا عن وضع الاتحاد النقدي الاوروبي اجمالا؟ تقول وكالة رويترز في تحليل لها: لقد خرجت منطقة اليورو من جناح الطوارئ لكنها قد تكابد مرضا عضالا منهكا وليس مرحلة نقاهة سريعة. فالتحديات المحدقة بأوروبا الآن تتمثل في ضرورة مقاومة ما يوصف بالرضا عن الذات, وإشعال جذوة النمو الاقتصادي مع خفض معدلات الدين العام, وكبح جماح السياسات القطرية الأنانية الضيقة والدافعة باتجاه كسر وحدة منطقة العملة الموحدة. وتعتبر قمة الاتحاد الاوروبي التي عقدت اخيرا, الأولي منذ عامين التي لم تكرس جل مناقشاتها لمسألة إطفاء لهيب أزمة الديون السيادية المستعرة. وكان الارتياح واضحا خلال اعمال هذه القمة. إذ صرح رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروزو بأنه لم يكن هذا الاجتماع مركزا علي إدارة الأزمة. وهذا أمر جديد. لقد تركز الاجتماع علي النمو الاقتصادي. فقد غيرت ثلاثة أحداث المزاج الأوروبي العام, وحققت الهدوء بأسواق المال التي بدا في أواخر العام الماضي أنها تراهن علي انفصام عري العملة الأوروبية الموحدة التي شكلت قبل ثلاثة عشر عاما. اتفاق مالي فقد وقع القادة الأوروبيون اتفاقا ماليا بقيادة ألمانية يمنح سلطات أكبر لقواعد انضباط الموازنات العامة والتي طالما جري تجاهلها, بينما تمارس دول مهمة كبري مثل ايطاليا واسبانيا تخفيضات قاسية في نفقاتها وإصلاحات في سوق العمل وفي مجال الأجور والمعاشات. وتفادت اليونان أزمة تعثر كارثية علي الأقل الآن بعدما أمنت حزمة إنقاذ دولية ثانية, وتوصلت الي صفقة مع مقرضين من القطاع الخاص تسهم في خفض جبل الديون الي مستويات يمكن التحكم فيها. وقبل كل شئ حالت صفقتان كبيرتان من التمويل الطويل الأمد المنخفض التكلفة من البنك المركزي الأوروبي دون اندلاع أزمة ائتمان ربما كانت قادرة علي إشعال موجة انهيارات مصرفية او تدافع مذعور علي سحب الودائع من البنوك الأوروبية, أو جحيما بسوق السندات مما يجعل ايطاليا واسبانيا في وضع يائس تماما. بطل اللحظة وأصبح ماريو دراجي رئيس المركزي الأوروبي بطل اللحظة حين وجد طريقة للتصرف كمقرض ملاذ أخير للبنوك دون إخلال بمعاهدة أوروبية تحظر منح التمويل للحكومات مباشرة. وكشف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي المتلهف علي منح الناخبين قبل انتخابات الرئاسة الشهر القادم انطباعا أن الأسوأ قد مر وأنها( أي الصفقة) ليست مضمونة100 في المائة. لكن أعتقد أننا نجتاز هذه الأزمة. بيد أن هذه التهاني الشخصية هي ما دفع دراجي إلي تحذير قادة الاتحاد الأوروبي من خلف الأبواب المغلقة من أن الأزمة أبعد ما تكون عن الانقشاع وأن المركزي الأوروبي أدي ما عليه. ونقل مشاركون بهذه الاجتماعات عن رئيس المركزي الأوروبي القول إن تدخل البنك اشتري لهم بعض الوقت فحسب ليتمكنوا من معالجة أمور المالية العامة وإدخال إصلاحات ذات مصداقية واستعادة النمو. فإن لم تستغل أوروبا فترة السماح في انجاز الإصلاح ستكون العواقب وخيمة. حائط الصد المالي وخلال الأسابيع المقبلة يتعين علي دول الاتحاد الأوروبي اتخاذ قرار حول كيفية تعزيز حائط الصد المالي الخاص بالاتحاد والبت في احتمال معاقبة أسبانيا علي مخالفتها معدلات خفض العجز المستهدفة والمتفق عليها أو منحها مزيدا من الوقت لإنعاش النمو. وستكون المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هي الأخري أمام قرار حاسم في نهاية مارس الجاري يتعلق بمدي السماح لمنطقة اليورو بضم أموال الإنقاذ الحالية المؤقتة إلي نظيرتها المستقبلية الدائمة لتوفير مخصصات أكبر في حالات الطوارئ. وتضغط كبري اقتصادات العالم ولاسيما الولاياتالمتحدة والصين علي أوروبا لتجنيب مزيد من أموال الإنقاذ كشرط مسبق للحصول علي مساعدات صندوق النقد الدولي لدرء آثار الأزمة. وقد يغري الرفض الشعبي وتزايد الغضب من حزم الإنقاذ في أوساط تحالف اليمين والوسط المستشارة الألمانية بالقول بعدم الحاجة إلي تأسيس صندوق إنقاذ أكبر وهو قرار يحتاج موافقة برلمانية صعبة. ونقلت رويترز عن مسئولين ألمان قولهم إن خفض عائد السندات الحكومية بشكل أكبر من اللازم لن يؤدي سوي إلي تخفيف الضغوط علي الحكومات لتطبيق إصلاحات. وعليه فإذا قالت ميركل لا وما لم يحصل صندوق النقد علي مزيد من الأموال في أبريل المقبل, فقد يعود التوتر إلي الأسواق المالية سريعا. جرعة مورفين وتقول رويترز إن أسواق السندات العالمية تعيش نشوة علي أثر جرعة المورفين المسكنة التي قدمها رئيس البنك المركزي الأوروبي لكنها جرعة مخدرة غير شافية علي حد قولها. فقد يعود الألم المالي والاقتصادي مجددا عبر سلسلة جديدة من خفض تصنيف الديون السيادية الأوروبية. ومن مخاطر الرضا عن الذات أيضا أن دولا مثل فرنسا التي باتت قادرة علي الاقتراض بتكاليف أقل قد تتهاون في إجراءات التقشف المطبقة لديها ولاسيما في عام الانتخابات. كما أن الأحزاب السياسية في ايطاليا تخفف بالفعل إصلاحات جذرية خاصة بتحرير قطاعات اقتصادية اقترحتها حكومة التكنوقراط بقيادة رئيس الوزراء ماريو مونتي. وتكمن مخاطر سياسية أخري في بلاد مثل أيرلندا التي طالما صوتت بالرفض علي المعاهدات الأوروبية والتي تطرح حاليا الاتفاق المالي للاستفتاء الشعبي ومثل اليونان المقبلة علي انتخابات عامة وسط استياء شعبي من إجراءات التقشف الصارمة التي يفرضها مقرضون دوليون. ومن غير المؤكد علي الإطلاق وجود إرادة سياسية بتحمل سنوات أخري من المصاعب الاقتصادية. وثمة تضارب بين الحاجة إلي خفض الديون وتعزيز النمو الاقتصادي الذي يصبح الدين بدونه مرشحا للارتفاع أكثر منه للانخفاض. وتعتبر أسبانيا حالة اختبار في هذا الصدد بعدما طلبت مدريد المزيد من الوقت لخفض عجز موازنتها الذي شط بعيدا فوق التوقعات ليأتي عند5,8 في المائة من الدخل القومي في العام الماضي. وتعقد المفوضية الأوروبية والمتشددون إزاء قضية العجز في دول شمال أوروبا العزم علي دعم مصداقية النظام الجديد بينما تشعر مدريد باليأس من تفادي الوقوع في دوامة كساد علي النمط اليوناني عبر تخفيضات بالموازنة أكثر حدة. البطالة البطالة وبما أن معدل البطالة في أسبانيا تجاوز نسبة23 في المائة, وأصبح بين كل شابين شاب عاطل تصبح أسبانيا أمام اضطرابات اجتماعية محتملة وهو خطر محدق بالبرتغال أيضا الغارقة في ظروف اقتصادية قاتمة. ومن شأن اتساع الفجوة بين اقتصادات الشمال الأكثر حيوية ونظائرها الجنوبية التي تعاني الانكماش أن يؤجج اضطرابات سياسية بين جيل ضائع يعاني أزمة بطالة خانقة في عدة دول. وتعد فرنسا أحد عوامل عدم اليقين أيضا إذ قد تنتخب في مايو المقبل رئيسا اشتراكيا يعيد التفاوض علي الاتفاق المالي لجعله أكثر حفزا للنمو الاقتصادي. ولئن كان ذلك من قبيل الرمزية السياسية في غالب الأحوال فإن احتمال الصدام مع ألمانيا سيكون حقيقيا إن تغلب فرانسوا هولاند علي منافسه ساركوزي. احتمال الفشل وإذا فشلت اليونان في تنفيذ برنامجها الإنقاذي من جديد فقد تثور ضغوط عارمة في ألمانيا وفنلندا وهولندا وهي دول اليورو الوحيدة التي لا تزال تحتفظ بتصنيف ائتماني ممتاز باتجاه قطع المساعدات عن اليونان وتركها في دائرة التعثر مما يدفعها لترك منطقة اليورو. ورغم هذه المخاطر فمن الصعب إلقاء اللوم علي قادة أوروبا إن شعروا بشئ من الرضا بعد عامين من إدارة الأزمة وفجروا انتقادات واسعة بأن الإجراءات جاءت أقل مما ينبغي وبعد فوات الأوان. وفي التحليل النهائي فإنه إذا كان اليورو مبحرا صوب مياه أقل اضطرابا, فإن كثيرا من الصخور تربض تحت السطح علي ما يبدو.