ساعدت الثورات العربية علي ارتفاع التوقعات والطموحات, ووفرت آليات جديدة للتحركات الشعبية لم تكن متاحة من قبل.يثير القرار الذي اتخذه وجهاء بني غازي الليبية بإقامة فيدرالية خاصة بالإقليم, مع الاستمرار ضمن الكيان الليبي الأكبر, الكثير من الاشكاليات بشأن مستقبل عملية التغيير وإعادة البناء في ليبيا, كما أن تأثيراته لا تتوقف عند حد ليبيا وحسب, بل أيضا تمتد إلي عدد آخر من الدول العربية. الأمر نفسه موجود في الحالة اليمنية التي تشهد, رغم غياب الرئيس صالح رسميا عن قمة السلطة بعد تطبيق المبادرة الخليجية المدعومة دوليا, ارتفاع أصوات المطالبين باستعادة الكيان الذي كان قائما في الجنوب قبل إعلان دولة الوحدة الاندماجية في مايو.1990 وهي خطوة تعني العودة إلي التشطير الذي ساد أكثر من23 عاما, وتسبب في ثلاث حروب بين الشطرين. وفي مصر ما بعد الثورة, وأثناء أزمة المنظمات الأجنبية المتهمة بتلقي أموال من الخارج دون الخضوع للقوانين والاجراءات المعمول بها, وجدت خرائط لدي إحدي المنظمات الأمريكية العاملة بدون ترخيص رسمي تقسم مصر إلي اربعة كيانات, وعلي كل كيان علامات معينة. والوضع الراهن في سوريا الغارق في المواجهات العسكرية بين الجيش النظامي وجماعات معارضة مسلحة ينذر إن استمر الوضع دون أفق سياسي واضح بأن تتحول مناطق بعينها إلي أقاليم معزولة قد تتحول لاحقا إلي بؤرة تقسيم خطيرة. ومن قبل كل ذلك شهدنا خروج جزء عزيز من الوطن السوداني الكبير, والذي أصبح دولة مستقلة في الجنوب, وفي الآن نفسه ترتفع دعوات بالانفصال في دارفور وفي الشرق علي السواء. إنها محنة إذا أن تتعرض عدة دول عربية كبري إلي اختبار التقسيم الجغرافي والسكاني بعد أن ظلت لفترة طويلة من الزمن كيانا واحدا. وبعد أن كان الحديث كما في الزمن القومي الراحل عن وحدة عربية شاملة من المحيط إلي الخليج, صار الحديث الآن هو عن سبل الحفاظ علي الواقع الجغرافي السياسي الراهن ومنعه من التشرذم والتفتت. وبالطبع فإن المفارقة الأكبر هنا هي إن هذا التطور يحدث في ظل تطور نوعي كبير هو الثورات والانتفاضات الشعبية التي أطاحت بنظم فاسدة ومستبدة, ولكنها ما زالت في رحلة البحث عن نظام جديد يجسد طموحات وتطلعات الشعوب الثائرة من اجل الحرية والكرامة والمواطنة. وكأي حدث كبير ثمة أسباب أكبر. أهم هذه الأسباب هو عجز النظم السياسية البائدة عن أن توفر الحد الأدني من عناصر التكامل الوطني والاجتماعي, الأمر الذي سمح بتسرب التهميش المنهجي سياسيا واقتصاديا لفئات ومناطق بأسرها لصالح مناطق وفئات اجتماعية أخري في الدولة ذاتها. ولذا تبرز دائما دعوات العودة للوراء وكأنها هي المخرج الوحيد للوضع المتردي القائم. وقد ساعدت الثورات العربية علي ارتفاع التوقعات والطموحات, ووفرت آليات جديدة للتحركات الشعبية لم تكن متاحة من قبل. والحالتان البارزتان هنا هما اليمن وليبيا. فالدعوة التي انطلقت في المحافظات الجنوبية في اليمن منذ1997 وتلخصت آنذاك في رفع الظلم عن أهالي هذه المحافظات بعد حرب صيف1994, لم تجد آذانا صاغية من السلطة السابقة, فما كان إلا أن تحول كثيرون من أهل الجنوب اليمني إلي رفع مطلب الانفصال ردا علي ما يعتبرونه الاحتلال من قبل الشماليين للجنوبيين. الأمر علي هذا النحو يطرح تحديا كبيرا علي الرئيس الجديد عبد ربه منصور هادي الذي يعد مطالبا علي الأقل من الناحية التاريخية بالحفاظ علي دولة الوحدة من جانب ورفع المظالم الكبري التي تعرض لها أهل الجنوب من جانب آخر. وهي مهمة شاقة تتطلب حوارا حقيقيا وشفافا شاملا للخروج من عنق الزجاجة, وإن حدث هذا الحوار الوطني ولم يقصي أحدا فقد يؤدي ذلك إلي إقناع المطالبين بالانفصال بأن هناك تغييرا حقيقيا حدث في البلاد, وهو تغيير يبشر بالوحدة علي أسس جديدة سياسيا واجتماعيا وإنسانيا. الحالة الليبية, ونعني إعلان فيدرالية بنغازي كنوع من العودة التاريخية إلي ما كان عليه الوضع الليبي في الفترة من1951 إلي1963 التي قامت علي تجمع ثلاث فيدراليات بين أقاليم بني غازي وطرابلس وفزان في الجنوب, تشكل نموذجا آخر مرتبط بالتهميش السياسي والاقتصادي, فإقليم بني غازي الذي يحتوي علي90% من ثروة ليبيا النفطية, ويعد معقلا للسنوسية الإصلاحية, يبدو فقيرا ومنزوع الفاعلية السياسية مقارنة بطرابلس التي تستقطب كل شئ وتستحوذ علي النسبة الأكبر من الثروة النفطية ومن جهود التنمية والتحضر والبنية الأساسية. وهنا يأتي الشعور العام لأهالي بني غازي بأنهم مظلومون, ويدعم من ذلك الأفكار السائدة حول إعادة بناء نظام سياسي جديد يقوم علي اختيار برلمان عبر الانتخابات ولكن يراعي في تشكيله نسبة السكان في كل منطقة, الأمر الذي يجعل بني غازي أقل حظوة من طرابلس التي سوف تستقطب اكثر من50% وحدها من أعضاء البرلمان المقترح نظرا لكثافة السكان فيها مقارنة بعدد السكان في بني غازي. ولذا يبدو إعلان الفيدرالية وكأنه خطوة استباقية لمثل هذا القانون الذي بدوره يكرس التمايز بين المناطق المختلفة في ليبيا, وهو تمايز يطمح كثير من الليبيين إلي إلغائه تماما, وفي المقدمة منهم أهالي بنغازي. وهكذا حين يجتمع الظلم التاريخي والتهميش الاقتصادي والحرمان السياسي يصبح نزوع الناس هو إلي ما يرونه حلولا جذرية عاصفة قد تعيد لهم حقوقهم المسلوبة, وسعي إلي القطيعة الكبري مع الماضي حتي ولو انتهي الأمر إلي نسف الوحدة الإقليمية والترابط الاجتماعي للبلاد التي لم يروا منها سوي الدونية والتراجع وضياع الموارد.