في جديده غازات ضاحكة( الأعمال الكاملة لإنسان آلي2) الصادر عن دار الغاوون في بيروت( يناير2012), يقدم الشاعر المصري شريف الشافعي تجربة متفردة في قصيدة النثر. تتطلب إعادة القراءة مرات عدة, حيث كل صفحة تحتاج إلي تفرغ كامل وتركيز, فهمي تأخذك في رحلة إلي الداخل النفسي العميق جدا, الذي ترغب في رؤيته في نفسك في الأحوال الطبيعية, وبداية من العنوان المشير إلي زمن كل غازاته سامة ومضحكة وهازئة بنا وبمعاناتنا, نحن صنف البشر. تتعبه نفسه شريف الشافعي, فهي لحوحة, ومتأججة, وتواقة للمعرفة والثورة واكتشاف الجديد, هذه النفس ملولة من الروتين الذي يحكم حياة الآليين ويقيدها ويفسد براءتها, لذلك جاء جزء من إهدائه الديوان( المكتوب بلسان إنسان آلي) إلي ذاته التي يغوص دوما في أغوارها أملا في استعادتها:( إلي إبتسامة جبرية لون القطن الطبي, وصلت برودتي ببرودة زواري المتعقمين, وفرقت بين شفتي المشتعلتين/ إلي غيبوبة كاملة, حررتني من البرامج الجاهزة, أطلقت أغصاني وأوراقي الخضراء, في اتجاه جاذبية الأرض/ إلي أنا, انظر إلي المرآة بعيون زجاجية فلا أري أحدا/ إلا أنا, حينما تنظر إلي المكرآة المتهشمة بعيون بشرية, قتري كل شئ. ويعود العالم). كاتب النص متمكن, واثق بذكائه, واثق بإحاسيسه, يدعم أقوالة بالصدق, وهذه مزيته الأساسية, القدرة علي أن تصدق النص علي مدي ما يقارب600 صفحة, وتتماهي معه كإنسان نابض( الغباء كله, أن أكون دائما أذكي من أن أفهم ما حدث, كما حدث),( لو لم تكن روحي خلية ضوئية بطبعها, لفكرت في إطفاء نور الغرفة, والنوم طويلا في الظلام),( أحتاج إلي مكواة بخارية كبيرة تنزلق علي صدري, كي يتحول إلي كتالوج مفهوم بالنسبة لي علي الأقل)( حديقة النخيل كلها غير كافية, لإزالة الكلي بداخلي, أنا الكبير, المحتاج إلي أمي المركبة). يمتد شغف الشاعر إلي فضاءات عشق المرأة, وبلور رغباته هذا العشق, وهو يعرف كيف ينقل الشغف إلي المتلقي, ساردا الموصفات المطلوبة للحبيبة المرتقبة, التي ربما لا تأتي أبدا, لصعوبة شروطه وسرعةاستنتاجاته:( فواكه الجنة لا تعطب أبدا, لذلك لا خوف علي فتنتك)( بحذائها ذي الكعب, وبدونه, هي سندريلا الحافية)( واحدة فقط لم تعرفني, ولم أعرفها, رقصت معي ست رقصات, وفي الرقصة السابعة, اكتشفت أنها ملابسي, التي خلعتها قبل الحفل)( أن أسميك وحدي فراشة النجوم, ونجمة الفراشات أمتع من أن أحكي حروفك المألوفة كببغاء). النص حياتي في الأساس, لكنه أيضا فلسفي, وجودي بثوب مزركش خفيف ورشيق في آن, كما يحمل أفكارا عميقة من العيار الثقيل, فهو يري الحياة طريقا إلي العدم المحتوم, ويراها مليئة بالألغاز التي لا يفهمها إلا قلة, ويحاول جاهدا أن يكون واحدا منهم, وهذا يقوده دوما إلي رغبته في التمسك بالحزن, كنوع من الإمساك بزمام الأمور. ربما يحسن ذلك من وضعه النفسي, أو يسعده, وفي الوقت نفسة هو يدعو إلي التفاؤل وعدم الذبول, وذلك بسبب روحه المرحة التي تطغي علي أسلوبه في الكتابة:( وحده العدم يعرف الإجابة: ماذا سيحدث لي, بعد حذفي من سلة المهملات الذكية؟!).(علي صفحة البحر سطور: من الألغاز, لا تفهمها النباتات, الغارقة في القاع, ولا السمك الفضي, القريب من السطح),(سعادتي الحقيقية, ستبدأ بمجرد أن أدرك. أن الحزن لا يزال ممكنا),(اكتبي وصيتك الخضراء, أيتها الشجرة, ثم لا تذبلي). لا أري عدم قناعة أو عدم ارتضاء في النص, لكنه تسليم تام بمحتمات, عدا بعض المشاغبات البريئة, التي تصنع طقسا كاملا, وتخفف مرارة الواقع الأليم. إن الحياة ساعات وتنقضي, والشاعر يرغب في الإدلاء بدلوه قبل فوات الأوان, فهو علي ثقة تامة بأن ذلك من حقه, وهذا صحيح, فهو لم يؤذ أحدا باعترافاته:(لم تكن عملية جراحية, كانت قطعة من عذاب, لأنها أجريت لي بدون تخدير/ الخدر الذي أحقن به دوريا, لأتحمل حياتي العملية, هو قطعة من موت)( السلامة في الحقل الملغوم, هي أن ندوس أكبر قدر من ألغامه),( أيتها الشجرة الكريمة: ألا أستحق ما هو أكبر من فرصة لالتقط الأنفاس؟ ألا أستحق عتقا من جحيم المطرودين من أنفسهم, الباحثين في العمر عن ذاكرة؟),( لأنك ترتدين الأزرق دائما, آمنت بأن السماء انثي جميلة),( بشعرها الطويل الأسود, وبدونه, هي رأس الحكمة العاري),( سجادة الصلاة تصافح الحقيقة دائما/ تمتص أنسجتها الحية دموعي/ لكن لا يزول عطشها تماما/ لأنها متشوقة, إلي ما لا تستطيع عيني أن تسكبه). دون مبالغة, النص بكامله مدهش, ومعاصر للأحداث في الوقت نفسه, وحين تطرق للسياسة فاجأنا الشاعر, وزادت قيمة النص علي قيمته, ليكون شرحا للحالة الإنسانية كاملة, لا الوجدانية فقط, ويتصل كوكب الأرض بالكواكب الأخري التي يرتادها ببراعة:(أنا زعيم الأغلبية الموافقين دائما علي كل شيء وأنا أيضا زغيم المعارضة/ أنا الحاكم الفرد/أنا القانون/ أنا المحكومون كلهم, بالقانون ودون قانون),(لست فاسدا ولا صاحب منصب, ولا وجيها إلي الدرجة التي تغريهم بإعطائي رشوة/ ولا هم طيبون طبعا, إلي هذه الدرجة),( ألم يكن كافيا, أن يسحبها كلب واحد, كلب من أولئك القادة, الذين ربطوا العربة بالخيول, وناموا مستريحي الجفون؟),( مشت الدبابات, علي القمصان المبللة بالدموع/ محت الخيوط كلها/ وبقيت رائحة الحزن السري في المكان/ تقاوم وحدها, تبخر الإنسان). صونيا عامر كاتبة من لبنان