المواسم الخمسة هي المجموعة القصصية الأولي للقاص مبارك أحمد محمود, الصادرة عن مطبوعات أمسية2011 وهي تحوي سبعة عشر نصا قصصيا, منها أحد عشر نصا يضم عددا من المقاطع المنفصلة المتصلة, بما سبقها من صور وأحداث ومواقف. ولأنه ليس مقطوع الصلة بالشعر, فالأديب مبارك أحمد محمود صاحب وعي لغوي متفرد, يشبه لغة القصيدة الشعرية التي تعتمد كثيرا علي نبض الكاتب وخبراته ورؤاه الشخصية, فتتميز قصصه بالايجاز والتركيز في بنيتها الفنية, وفي جوهرها رصدا انسانيا رحبا, وهي مداهمة من الكاتب للميراث الاجتماعي للواقع, فهناك العجز, ومعاناة الفرد وانهيار الإرادات وتفسخ العلاقات وسقوط الكيانات الانسانية المهزومة بوحشية الواقع, وكلها تأتي في مشاهد وصور, أو بورتوريهات صارمة أحيانا ومنفرجة أحيانا أخري. ودخل إلي منزله صامتا.. واستقبلته زوجته صامتة, أزاح عن كتفه حقيبة سفره, وألقي نظرة علي أبنائه النيام بصمت استلقي علي فراشه ثم التفت إلي زوجته قائلا بحسرة: لن أفكر في السفر!! المهم أنك عدت سالما ورفعت الزوجة كفها لتمسح دمعة كبيرة في الظلام.ورغم صغر الأقاصيص, نشهد جرأة تنوعها ما بين الحركة النابضة بالأخيلة الساخرة, أو النابضة بعمق التفاصيل, مع توحد سمة الانكسار لشخوص القصص واجترار الألم والحسرة. كنت أسير متجها إلي عملي صباحا, فوجدت أذني تشارك عيني في هذا المشهد العجيب. كان الرجل وابنه في حوار, الرجل يمتطي الدابة وابنه خلفه الابن: هات سيجارة الأب: ليس معي سجاير يا ولدي, فجأة قذف الابن نفسه من علي الدابة, وألقي المنجل في الأرض وتمتم: لما تجيب سجاير, أروح معاك.. كما نلحظ في رؤيتنا لقصص الكاتب مبارك أحمد محمود, أنها لا تكشف مضمونها مباشرة, إلا بعد إسدال ستار النهاية كاملا. قال لأمه وهو ينزع فمه من ثديها: لماذا لا أجد حليبا لأروي ظمئي؟ نظرت إليه صامتة: ابتسمت بحزن.. مسحت علي شعره.. وقالت بحنان: لا تتكلم الآن يا صغيري فأنت لم تبلغ العام الأول من عمرك وأخاف عليك من هموم نشرة الأخبار.. وجنون الأسعار. ولأن الكاتب مغرم بمتابعة الحدث ومراحل تطوره, في إطار تسلسلي, فإن الشعرية جعلت سياق قصصه تأتي غالبا بصيغة المتكلم أوالراوي العليم, وفقا لتطور الأحداث والمواقف, عازفا سيمفونية الخلاص من عنفوان الأحزان وصخبها, فهو ككاتب لقصيدة النثر, بوصفها شكلا من أشكال التعبير الشعري, فإن نصوصه القصصية كذلك, تستجلي تجربته الذاتية في نقل النهج الرمزي وجملة الأحاسيس الذاتية, وتحويلها إلي مؤثرات نصية متدفقة, لذا نجد صدي تجاربه الانسانية في القصة, يسبح في فضاء المجتمع والتفاعل معه, كما كان قادرا من قبل علي انجاز قصيدة لومضة فهو بارع أيضا في بسط رؤاه الوامضة في نسيجه القصصي. وقالت حتي لو عدت إليك من الجنة, أنت لا تصدقني!! ومع هذا سأظل أصارحك ولوكرهت.. ولو رحلت.. ولو انتهيت.. لأني اهتم بوجودك العظيم في قلبي!. لقد قدمت قصص المجموعة عددا من الصور والمشاهد والأحداث, المرتبطة عضويا وفنيا بنتائج ومواقف موحدة, نعم هي مواسم السماء الأربعة المتقلبة من صيف ساخن إلي شتاء بارد, لتصل بنا إلي ربيع مزهر أو خريف جاف, لكن الكاتب أضاف موسما جديدا يظللنا جميعا هو الحزن, وهو الوجه الخامس للحياة, الذي يصافحنا ويكابدنا من الصحو إلي المنام, ويلبد سماء شخوص الكاتب وأبطال قصصه وهو ما بدا جليا من إهداء الكاتب إلي جمهور قرائه, والذي عنونه إلي تلك اللحظة التي قد تأتي يوما, لتغسلني من أحزاني, إلي أهلي وأبناء قريتي الصبريات أهدي هذه القصص, ورغم رغبة الكاتب الجامحة مع بعض شخوصه, في تخطي المحن وتمني التخلص من تلك الأحزان, بل وخلعها ولو بجرة قلم, أو لطمها حتي بحفنة تراب, فإن الواقع لايزال قاسيا بلون التراب أيضا. من لي بحفنة تراب واحدة من أرض مولدي, يخيل إلي أن رؤيتها كافية لجلاء الهموم التي تسكن صدري.هذه القصص الإيقاعية السريعة ببنيتها المضغوطة, للأديب مبارك أحمد محمود, ربما شكلت لوحات نابضة, باتت مدخلا موحيا للإطاحة بالأحزان المعربدة في ثنايا النفس, وظلت سندا مؤيدا لاتجاه الكاتب الواقعي, المعتمد علي الرؤي الرمزية والقدرات الشخصية, في قراءة صادقة أو صادمة لمفردات المجتمع, بأسلوب أقرب إلي التصوير منه إلي الرصد, فارتكنت الكتابة إلي مجابهة الحياة بصرامتها,وفضح أحزاننا أو ومسحها بالفضفضة الذاتية. فتحي أبوالمجد ناقد وأديب