ثمة خطيئة منهجية كبري عادة ماتقع فيها جل وسائل الإعلام المحلية الإقليمية والعالمية في تغطيتها للأحداث الدراماتيكية الداخلية في إيران, هذه الخطيئة تتمثل في تصوير الوضع الداخلي الراهن في إيران بوصفه صراع أفكار. صراع يدور بين فئتين رئيسيتين( لاحظ هذا الاختزال شديد السذاجة لواقع واحد من أشد المجتمعات تعقيدا بحكم تاريخيته وجغرافيتيه وتنوعه الثقافي والحضاري المذهل).. فئة اسماها الإعلام التبسيطي المخل المحافظين وأخري اسماها بالإصلاحيين( لاحظ كيف انساق الإعلام العالمي برمته وراء هذا التعليب الفكري غير العلمي والفج في انحيازه التقييمي) وذلك علي نحو جعل الصورة في إيران تتألف من لونين فكريين أبيض أسود وذلك بون تأصيل جيد للمصالح الاقتصادية الكامنة وراء هذه الألوان الفكرية. توصيفات معلبة وبهذه التوصيفات المعلبة, كان علي المشاهد, أو القاريء, أو المستمع أن يستنتج سريعا من هو الأبيض ومن هو الأسود في المشهد الداخلي الإيراني, كي يتخذ بعد ذلك موقفا في سرعة البرق بالتعاطف الساذج مع هذا وضد ذاك. وتتجسد الخطيئة المركزية في هذه التغطية الإعلامية في نقل صورة طوباوية/ مثالية اي صورة منفصلة عن الواقع وعن جذوره لما يحدث علي الأرض في إيران.. وهو مايتناقض مع ابسط قواعد التحليل السياسي والاجتماعي والتاريخي الرصين.. هذه القواعد تقول إن السياسة لم تكن قط صراع أفكار بقدر ماهي صراع مصالح حتي لو ارتدي هذا الصراع لباسا فكريا ثقافيا ديني النزعة. وصراع المصالح الجاري علي أشده في إيران لايمكننا أن نفهمه او نستوعبه, إلا بعد تشريح طبقات وشرائح المجتمع الإيراني وتحديد مصالح كل فئة وكل طبقة فيه كي نتبين طبيعة الحراك الاجتماعي/السياسي الذي يأخذ شكل المنظومة الصراعية الراهنة. أفكار الخوميني ولمزيد من الإيضاح نقول: إن الثورة الإيرانية أصلا لم تقم بسبب أفكار الخوميني( وهناك من يتهم الخوميني اصلا بسرقة الثورة من القوي الليبرالية واليسارية) وإنما اندلعت بشكل رئيسي في إطار صراع بين البراجوازية التجارية التقليدية المعروفة في الأدبيات الإيرانية باسم البازار وبين خليط طبقي برجوازي كانت مصالحه مرتبطة بوجود الشاه وبالرأسمالية العالمية. فالشاه كان يريد تحديث إيران علي طريقته, وذلك بربط الدولة الإيرانية أكثر فأكثر بالرأسمالية العالمية, وبانفتاحها أكثر فأكثر علي هذه الرأسمالية وهو مايعني إصابة مصالح طبقة التجار أو البازار( وهي الطبقة التي تمثل الرأسمالية الوطنية التقليدية التجارية) في مقتل. ومن هنا جاء تبني البازار للحوزات الدينية وإنفاقها بسخاء عليها ومن ثم جاء احتضان الثورة لمصالح البازار.. أي أن الثورة لم تكن في الأساس صراعا في الأفكار وإنما صراع مصالح دمويا بين رأسمالية تجارية وطنية بدائية هي بالمناسبة نفس الرأسمالية التي وقفت وقفة جبارة مع التيار القومي أيام حكومة مصدق إبان تأميمها لقطاع النفط الإيراني في القرن المنصرم أي أنها تاريخيا كانت دوما ضد الاستغلال الأجنبي لموارد البلاد وبين رأسمالية تابعة للغرب ومرتبطة في مصالحها بوجود الشاه. بعد الثورة لكن بعد الثورة تغيرت علي مايبدو الخريطة الاجتماعية الاقتصادية في الجمهورية الثورية الإيرانية, وأخذ الصراع السياسي علي مايبدو شكلا جديدا.. ومن ثم يصبح من الأهمية بمكان كشف هذه الخريطة الثورية الجديدة كي نفهم جيدا الواقع الداخلي الإيراني كما هو وبلغة المصالح. فالاحتجاجات الشعبية التي تندلع في إيران بين الحين والآخر والتي كانت قد وصلت إلي ذروتها بعد أزمة تزوير الانتخابات الرئاسية في عام ألفين وتسعة تخفي وراءها صراعا جوهريا علي الثروة والسلطة في إيران.. هناك بعض التساؤلات المنهجية التي قد تفسر لنا طبيعة هذا الصراع. 1 لمصلحة أي فئات اجتماعية واقتصادية يعمل احمدي نجاد ومعارضوه باعتبارهم واجهة الصراع السياسي/ الاجتماعي/ الاقتصادي في إيران الآن؟ 2 من هي الفئة الاجتماعية الاقتصادية الأشد تضررا من سياسات أحمدي نجاد السياسية والاقتصادية؟ 3 ماالمهيمن الآن علي قوي الانتاج في إيران.. وهل هناك قوي اقتصادية صاعدة تسعي إلي إزاحة قوي تقليدية من طريقها؟. 4 وأخيرا كيف يتفاعل الداخل بصراعاته مع الخارج بمصالحه؟ المفارقة الكبري في هذا الأمر تتمثل في أن المرشد الإيراني الأعلي نفسه بدا وكأنه يعطي الإيجاء بأن مايجري في ايران هو صراع أفكار وعلي هذا الأساس نجده لايتورع عن إلقاء خطبه العصماء التي تسعي إلي تهدئة الأمور بعبارات معسولة من قبيل تأكيد أن فوز احمدي نجاد هو بمثابة حكم إلهي( بالمناسبة الأمريكيون أنفسهم مقتنعون بأن أحمدي نجاد فاز فعلا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ولكن ليس بهذا الفارق بينه وبين منافسه مير حسين موسوي وهو الكلام الذي أكدته مجلة نيوزويك الأمريكية). صراع مصالح لقد بدا خامنئي غافلا أو متغافلا عن أن مسألة الداخل الإيراني تبدو أكثر تعقيدا من ذلك بكثير..... إنه صراع مصالح علي واحدة من أكبر ثروات العالم.. صراع ليس عند التيارات السياسية المنخرطة فيه مانع أن تقطع بعضهما رءوس بعض( انظر كيف تخلي الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني عن الزعيم الايراني الاعلي علي خامنئي رغم ان رفسنجاني كان أول من اقنع النخبة الدينية بتعيين خامنئي مرشدا رغم مايتردد عن افتقاره لكثير من المؤهلات العلمية والكارينرمية لهذا المنصب وذلك ببساطة لأن رفسنجاني تحول من مناضل ثوري إلي أحد كبار أبناء طبقة البازار( البرجوازية التقليدية التي ينخرها الفساد الآن) وبالتالي أصبح طبقيا من أشد المتضررين من السياسات الاقتصادية اليسارية لأحمدي نجاد.. وثمة من يقول إن أحمدي نجاد نفسه الذي تردد أنه لايتورع حتي عن تقبيل قدمي خامنئي ليس أكثر من أداة او حتي ألعوبة في مشروع خامنئي, ذلك المشروع المتمثل في إقامة مايمكن وصفه بخلافة إسلاموية فاشستية والذي يقوم علي تكريس الثروة والسلطة في أيدي المؤسسة العسكرية والأمنية علي نحو يضرب ضربا مصالح الرأسمالية الوطنية البدائية الرجعية التي يشكل البازار جوهرها ويضرب أيضا في مصلحة رأسمالية جديدة صاعدة تود الانفتاح علي الرأسمالية العالمية انفتاحا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا مستغلة رغبة الجماهير الفتية في الانفتاح ثقافيا علي الغرب. باختصار فان الصراع الداخلي الجاري في إيران الآن ليس مجرد صراع افكار مجردة وانما هو صراع مصالح عنيف ودام بين تيارات سياسية يود كل منها الاستئثار دون غيره بثروة دولة تعد خامس أكبر منتج للنفط في العالم, فالمصالح منذ أعظم الثورات في التاريخ بداية من ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس ووصولا إلي الثورات البرجوازية في الغرب وعلي رأسها الثورة الفرنسية لم تقم بالأساس بسبب صراع أفكار رغم الأهمية البالغة لهذه الأفكار في تأجيج هذه الثورات وإنما كانت محصلة صراع بين قوي قديمة تجسد مصالح رجعية وقوي جديدة لها مصالح جديدة أما الشعوب المسكينة فهي كثيرا ماتصبح وقود هذا الصراع.