أثناء لقاء مع أصدقاء الشباب, تبادلنا- بعد أن ولي الشباب- ذكريات طافت بالحب الأول, وطالت فترة الابتعاث للدراسة في الخارج. حدثنا صديقنا الريفي الأصل عن زميلته الألمانية التي أحبها, خرجا معا للنزهة في إحدي الحدائق العامة بجوار الجامعة التي كانا يدرسان بها في العاصمة الألمانية, وبينما هما جالسان في ركن هادئ بالحديقة, ظهر شرطي, فهب صديقنا واقفا استعدادا للهرب, وتعجبت صديقته الألمانية- التي صارت زوجته فيما بعد- من تصرفه, فقد كان تصرفا غريبا من وجهة نظرها, فالشرطي بمفهومها موجود لحماية الناس وليس لتخويفهم. التصرف التلقائي لزميلنا كان يعكس موروثا يتمثل في علاقة مرضية بين الشرطة والشعب, ويجسد خللا متأصلا في المجتمع, فالشرطة في بلادنا أداة الحاكم ووسيلة علية القوم للسيطرة علي الناس, خاصة البسطاء منهم, فكانت تسوق العبيد من الفلاحين للباشا الإقطاعي قبل ثورة الجيش مع الشعب في خمسينيات القرن الماضي, وأصبحت قبل ثورة يناير من العام الماضي تسوق الشعب كله لخدمة الحاكم وطبقة الإقطاعيين الجدد, واستبدلنا الباشا الضابط والباشا رجل الأعمال, والباشا أمين الحزب, ليحل محل الباشا الإقطاعي, وتمادت الشرطة في غيها لتكون أداة الحاكم في تزوير إرادة الشعب فظلمت نفسها أبلغ ظلم. لعل ذلك يفسر واقعة حدثت في الجمعية العلمية المرموقة التي أشرف بعضويتها, فهي تصدر في مطلع كل عام ميلادي تقويما سنويا يستخدم لتسجيل المواعيد, ويحتوي علي تواريخ الأعياد والمناسبات والأجازات الرسمية. وفي المراجعة النهائية لتقويم العام الجديد, لفت أحدهم النظر فخورا إلي المربع الخاص بيوم25 يناير حيث قرأ عيد الثورة واستطرد لم يعد عيدا للشرطة, ودار النقاش بل هو عيد الشرطة مع الثورة, وقبل الثورة. ما رأيك يا عزيزي القارئ, هل هو عيد الثورة أم الشرطة؟ قبل أن تجيب علي السؤال دعنا نتذكر معا حكاية يوم25 يناير ودلالاته, ففي خمسينيات القرن الماضي كانت السيادة الوطنية مجروحة, وكانت منطقة القناه( الإسماعيلية- السويس- بورسعيد( تحت سيطرة القوات البريطانية, طالب المصريون بالجلاء وهاجمت كتائب الفدائيين( المؤلفة من الفلاحين والعمال وطلبة الجامعات وغيرهم) قوات الاحتلال, وكبدوها خسائر بشرية ومادية ومعنوية فادحة. وكانت مدن القناة وقتها مقسمة بين حي أفرنجي يسكن فيه الإنجليز وحي بلدي يعيش فيه المصريون. وبعد أن اشتدت الهجمات الفدائية واستفحلت الخسائر البريطانية, قامت قوات الاحتلال بترحيل أهالي الحي البلدي إلي خارج الإسماعيلية( البيت بيت أبونا والغرب يطردونا!!), فازدادت هجمات الفدائيين شراسة, وبلغت غطرسة قوات الاحتلال مداها حين توجست أن قوات البوليس المصري تساعد الفدائيين, أن أصدرت أمرا بخروج كافة أفراد الشرطة المصرية من مدن القناة قبل فجر يوم1952/1/25, مع ترك أسلحتهم بداخل مبني المحافظة. ضابط البوليس المصري المسئول في تلك الآونة الملازم أول مصطفي فهمي خرج ليتحدث مع قائد القوة البريطانية التي حاصرت مبني المحافظة رافضا الامتثال للأمر قائلا: تلك أرضي وأنت الذي يجب أن ترحل منها وليس أنا, وتركه ودخل إلي مبني المحافظة. وتحدث إلي جنوده الذين رفضوا الاستسلام وقرروا الدفاع عن المبني لآخر جندي رغم علمهم بعدم التكافؤ بين بنادقهم القديمة والدبابات الثقيلة التي تحاصر مبناهم. وظلت الاشتباكات سارية لساعات طويلة, وسقط الشهداء والجرحي من الجنود والأهالي الذين تسللوا إلي مبني المحافظة لتوفير الغذاء والذخيرة والمسدسات للواقعين تحت الحصار. خرج الضابط فهمي ليطلب نقل الجرحي والمصابين, فتوقف الضرب وإذا به يجد من يؤدي له التحية العسكرية- قائد القوات البريطانية في منطقة القناة بالكامل, مشيدا بدفاع الشرطة عن مبني المحافظة وبطولة الجنود الفائقة, وطالبهم أن يستسلموا بشرف مثلما دافعوا عن مكانهم بشرف, ووافق علي شروط الضابط المصري المطالب بإسعاف المصابين ونقلهم, وخروج الجنود في طابور منظم يليق بهم. وانتهت معركة الصمود التي استشهد فيها50 شرطيا وأصيب80 جريحا, وفضلوا الموت بشرف وعزة عن تنفيذ أمر ذليل, واستمسكوا بأرضهم ومواقعهم رمزا للدفاع عن الكرامة الوطنية, وسمي اليوم بعيد الشرطة, وأصبح عيدا قوميا لمحافظة الإسماعيلية تخليدا لذكري الموقعة التي جرت علي أرضها. ربما يمر وقت طويل قبل أن يفيق الغافلون, وتتبلور الإرادة السياسية في الحفاظ الحقيقي علي الكرامة الإنسانية. يومها سيشير المربع الخاص بيوم25 من يناير في تقويم الجمعية إلي عيد الشرطة والشعب بحق وحقيق.