كثيرة هي تلك الأحداث والمواقف الوطنية التي تستدعي الي الوجدان العام دور الشرطة القائم علي المواطنة والانتماء الراسخ لمصر, لقد تجسد ذلك في تعامل الشرطة المصرية مع العمل الارهابي في الاسكندرية خلال الدقائق الاولي من العام الحالي, وراح ضحيته عشرات الابرياء, وقد قام وفد المجلس الملي بزيارة أفراد الشرطة الذين اصيبوا في ذلك الحادث الإرهابي, وتم نقلهم لتلقي العلاج في مستشفي الشرطة بالإسكندرية, كان مما قاله القمص رواس مرقص وكيل قداسة البابا بالإسكندرية: إن القنبلة التي انفجرت لم تفرق بين الضابط المسلم والضابط المسيحي, وإننا هنا لننقل تحيات قداسة البابا شنودة لهؤلاء الضباط المصابين تقديرا لدورهم الوطني في حماية أمن مصر. لقد تعاملت الشرطة مع ذلك الحادث الإرهابي بأساليب احترافية مهنية ترتكز علي المواطنة والانتماء, وهذا امتداد لتضحيات متواصلة لرجال الشرطة المصرية, المسيحيين منهم والمسلمين, بما يجسد مآثر خالدة في تاريخ مصر التي تحتفل بعيد الشرطة في الخامس والعشرين من يناير كل عام, فالاحتفال هنا لايخص وزارة الداخلية وحدها, وانما يخص المصريين جميعا منذ ما يقرب من ستين عاما وبالتحديد منذ يوم الجمعة الموافق25 يناير عام.1952 ففي ذلك اليوم قام القائد البريطاني في منطقة القناة باستدعاء ضابط الاتصال المصري وسلمه إنذارا بأن علي قوات الشرطة المصرية في الإسماعيلية أن ترحل فورا عن منطقة القناة وأن تسلم أسلحتها الي السلطات البريطانية, لكن الشرطة المصرية رفضت الانذار البريطاني شكلا وموضوعا, خاصة ان حجة القائد البريطاني في توجيه هذا الانذار هي أن قوات الشرطة المصرية مركز اختفاء الفدائيين الذين يشنون هجمات مكثفة علي القوات البريطانية. وتسجل كتب التاريخ ان القائد البريطاني( البريجادير أكسهام) استنكف ان ترفض الشرطة المصرية الانذار, ففقد أعصابه, وفي حمأة الانفعال أمر قواته بمحاصرة قسم شرطة الإسماعيلية, واستمرت القوات البريطانية تحاصر قسم الشرطة وتمارس كل الضغوط والحرب النفسية علي الجنود والضباط المصريين دون جدوي, قبل غروب شمس ذلك اليوم25 يناير1952 قصفت القوات البريطانية مبني محافظة الإسماعيلية, حيث كان يوجد قسم البوليس, كان القصف عنيفا, وكان عدد القوات البريطانية سبعة آلاف جندي يستخدمون كل ما معهم من أسلحة بما فيها مدافع الميدان, والعربات المصفحة تدعمهم دبابات السنتريون الثقيلة, بينما كان عدد الضباط والجنود المصريين الموجودين بقسم الشرطة لايتجاوز ثمانين فردا, ليس معهم سوي البنادق العادية العتيقة من طراز لي انفيلد وبرغم قلة العدد وبساطة السلاح, إلا ان أفراد الشرطة المصريين قاتلوا ببسالة, ولم يستسلموا للقوات البريطانية هائلة العدد والعدة, واستمر هؤلاء الافراد في المقاومة إلي ان نفدت آخر ذخيرة كانت بحوزتهم كان من نتيجة هذه المواجهة استشهاد خمسين فردا من أبطال الشرطة المصرية, بالإضافة الي إصابة العشرات من الذين كانوا موجودين بالثكنات المجاورة لقسم الشرطة. لم تكتف القوات البريطانية بذلك, وإنما قامت بتدمير القري المجاورة لمدينة الإسماعيلية بحجة ان تلك القري يختفي فيها الفدائيون الذين يهاجمون القوات البريطانية, واسفرت عمليات التدمير هذه عن استشهاد وإصابة العديد من المدنيين, كما تم اعتقال العشرات اثناء عمليات التفتيش التي قامت بها تلك القوات. في تلك الملحمة تجسدت وطنية رجال الشرطة المصرية وشجاعتهم, وكانوا عنوان الشرف لكل الشعب المصري, ولكل الشعوب الحية التي تحارب الاستعمار من أجل الاستقلال والحرية والكرامة الوطنية, وتفاعلت وسائل الإعلام الدولية مع المواجهات المسلحة بين الشرطة المصرية وقوات بريطانيا العظمي, بل إن الصحف البريطانية ذاتها أبرزت تلك المواجهات في مانشيتات رئيسية مما جعلها حديث الرأي العام داخل بريطانيا وخارجها, تفاعلت تلك الاحداث مع ظروف داخلية وخارجية مما اذكي جذوة الغضب الشعبي المصري ضد قوات الاحتلال وخرجت المظاهرات الغاضبة في القاهرة وغيرها من المدن المصرية, واتسع نطاق العمليات الفدائية ضد الإنجليز في منطقة القناة, وتطورت الأحداث بسرعة ثم توجت بقيام الثورة بعد شهور معدودات لتنهي بذلك فترة احتلال دامت سبعين عاما. هذا المعني الراسخ في الوعي الجمعي للمصريين بشأن دور الشرطة يظهر متجسدا بوضوح في كل مواقف الآلام والمحن التي تحدث بين الحين والآخر, وكان آخرها ذلك الحدث الإرهابي الجبان الذي وقع بجوار كنيسة القديسين بالإسكندرية ونحن نحتفل بأعياد الميلاد المجديدة. وبصرف النظر عن الاحداث الكبري التي يكون دور الشرطة في التعامل معها علامات فارقة, فإن هذا الدور يتسع نطاقه وتتعمق اساليبه في الظروف اليومية العادية, إذ إن طبيعة عمل الشرطة تقتضي مواصلة العمل ليلا ونهارا في توفير الامن والاستقرار, والحفاظ علي الآداب والأرواح والممتلكات الخاصة والعامة.. وليس غريبا أن وظائف رجال الشرطة تصنف عالميا ضمن الوظائف متعددة الابعاد( الأهمية الفائقة, المشاق, المخاطر), واذا كانت الأهمية الفائقة تعني أن الافراد والجماعات لاتستقيم أمورها إلا بتوفير الامن المجتمعي, فإن المشاق تعني أن دور الشرطة يفرض علي منتسبيها أن يبذلوا جهدا ذهنيا وجسمانيا هائلا, وتمتد فترات العمل ساعات طويلة وفق نظام صارم الدقة لامجال فيه للتراخي أو المهادنة, أما المخاطر فتعني ان وظائف الشرطة تضع أصحابها في قلب الخطر, ويكفي انه في غضون اربعة اشهر من عام.2009 استشهد ستة من ضباط الشرطة وهم يتصدون بحزم للقتلة والسفاحين واللصوص وتجار السموم والمخدرات ومغتصبي الحقوق ومنتهكي الاعراض وغيرهم من المجرمين والخارجين علي القانون.. كل ذلك من أجل الوطن والمواطن وأمن المجتمع واستقراره, وهناك الكثير من رجال الشرطة الذين رفضوا مغريات هائلة من منظور المبدأ والانتماء. هذه الصورة الذهنية عن رجال الشرطة تنمو وتترسخ شيئا فشيئا في أذهان الجماهير, وقد أحسنت وزارة الداخلية صنعا عندما اهتمت بمناهج العلاقات العامة والعلاقات الانسانية والاتصال وحقوق الانسان من خلال المناهج الدراسية المتطورة والدورات التدريبية المخططة بعناية, الأمر الذي اتاح لرجال الشرطة اكتساب مهارات الكفاءة المهنية والانسانية في أداء دورهم, وفي هذا السياق تم تطوير ادارة العلاقات العامة في الوزارة وهياكلها الفرعية وأصبحت مضرب المثل في الكفاءة المهنية والحس الانساني, فتحية الي رجال الشرطة في عيدهم, إنه عيد لكل المصريين.