جداول امتحانات الترم الثاني 2025 في محافظة سوهاج لجميع المراحل الدراسية    تكريم مجدي يعقوب ورواد الطب بنقابة الأطباء اليوم    أسعار الخضروات والأسماك اليوم السبت 10 مايو بسوق العبور للجملة    45 دقيقة تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. السبت 10 مايو 2025    «المضارين من قانون الإيجار القديم» توضح مطالبها من القانون الجديد (تفاصيل)    اليوم.. بدء الموجة ال 26 لإزالة التعديات على أراضي الدولة    أول بيان من الجيش الهندي بشأن الهجوم الباكستاني المضاد    مسيرات باكستانية تحلق في سماء نيودلهي وسط تصاعد التوترات    «احذر الخروج في هذه الأوقات».. الأرصاد تُصدر نشرة طقس عاجلة اليوم السبت 10 مايو 2025    "جميعها حالات اختناق".. إصابة 11 جراء حريق قويسنا بالمنوفية (صور)    حبس لص المساكن بالخليفة    الصحة تكشف 7 فوائد للاهتمام بالحالة النفسية للأطفال    الرئيس السيسي يعود إلى مصر بعد حضوره احتفالات عيد النصر بموسكو    بعد 8 ساعات.. السيطرة على حريق شونة الكتان بشبرا ملس    نشرة التوك شو| البترول تعلق على أزمة البنزين المغشوش.. وتفاصيل جديدة في أزمة بوسي شلبي    عاجل- الرئيس السيسي يعود إلى القاهرة بعد مشاركته في عيد النصر بموسكو    طحالب خضراء تسد الفجوة بنسبة 15%| «الكلوريلا».. مستقبل إنتاج الأعلاف    كلبشت في إيده وعايزة تحضنه، مقطع الفيديو الذي تسبب في طلاق أردنية بسبب راغب علامة    مدير مدرسة السلام في واقعة الاعتداء: «الخناقة حصلت بين الناس اللي شغالين عندي وأولياء الأمور»    برلمانية: 100 ألف ريال غرامة الذهاب للحج بدون تأشيرة    الشعب الجمهوري بالمنيا ينظم احتفالية كبرى لتكريم الأمهات المثاليات.. صور    شعبة الأجهزة الكهربائية: المعلومات أحد التحديات التي تواجه صغار المصنعين    طريقة عمل الخبيزة، أكلة شعبية لذيذة وسهلة التحضير    استشهاد قائد كتيبة جنين في نابلس واقتحامات تطال رام الله    زعيم كوريا الشمالية: مشاركتنا في الحرب الروسية الأوكرانية مبررة    هل تجوز صلاة الرجل ب"الفانلة" بسبب ارتفاع الحرارة؟.. الإفتاء توضح    الهند تستهدف 3 قواعد جوية باكستانية بصواريخ دقيقة    الترسانة يواجه «وي» في افتتاح مباريات الجولة ال 35 بدوري المحترفين    عقب الفوز على بيراميدز.. رئيس البنك الأهلي: نريد تأمين المركز الرابع    «زي النهارده».. وفاة الأديب والمفكر مصطفى صادق الرافعي 10 مايو 1937    تكريم منى زكي كأفضل ممثلة بمهرجان المركز الكاثوليكي للسينما    «ليه منكبرش النحاس».. تعليق مثير من سيد عبدالحفيظ على أنباء اتفاق الأهلي مع جوميز    «غرفة السياحة» تجمع بيانات المعتمرين المتخلفين عن العودة    «زي النهارده».. وفاة الفنانة هالة فؤاد 10 مايو 1993    ملك أحمد زاهر تشارك الجمهور صورًا مع عائلتها.. وتوجه رسالة لشقيقتها ليلى    «صحة القاهرة» تكثف الاستعدادات لاعتماد وحداتها الطبية من «GAHAR»    رايو فاليكانو يحقق فوزا ثمينا أمام لاس بالماس بالدوري الإسباني    ستاندرد آند بورز تُبقي على التصنيف الائتماني لإسرائيل مع نظرة مستقبلية سلبية    حدث في منتصف الليل| ننشر تفاصيل لقاء الرئيس السيسي ونظيره الروسي.. والعمل تعلن عن وظائف جديدة    تعرف على منافس منتخب مصر في ربع نهائي كأس أمم أفريقيا للشباب    عباسى يقود "فتاة الآرل" على أنغام السيمفونى بالأوبرا    «بُص في ورقتك».. سيد عبدالحفيظ يعلق على هزيمة بيراميدز بالدوري    عمرو أديب بعد هزيمة بيراميدز: البنك الأهلي أحسن بنك في مصر.. والزمالك ظالم وليس مظلومًا    هيثم فاروق يكشف عيب خطير في نجم الزمالك.. ويؤكد: «الأهداف الأخيرة بسببه»    يسرا عن أزمة بوسي شلبي: «لحد آخر يوم في عمره كانت زوجته على سُنة الله ورسوله»    انطلاق مهرجان المسرح العالمي «دورة الأساتذة» بمعهد الفنون المسرحية| فيديو    بسبب عقب سيجارة.. نفوق 110 رأس أغنام في حريق حظيرة ومزرعة بالمنيا    أمين الفتوى: طواف الوداع سنة.. والحج صحيح دون فدية لمن تركه لعذر (فيديو)    النائب العام يلتقي أعضاء النيابة العامة وموظفيها بدائرة نيابة استئناف المنصورة    جامعة القاهرة تكرّم رئيس المحكمة الدستورية العليا تقديرًا لمسيرته القضائية    البترول: تلقينا 681 شكوى ليست جميعها مرتبطة بالبنزين.. وسنعلن النتائج بشفافية    متابعة للأداء وتوجيهات تطويرية جديدة.. النائب العام يلتقي أعضاء وموظفي نيابة استئناف المنصورة    «لماذا الجبن مع البطيخ؟».. «العلم» يكشف سر هذا الثنائي المدهش لعشاقه    ما حكم من ترك طواف الوداع في الحج؟.. أمين الفتوى يوضح (فيديو)    خطيب الجامع الأزهر: الحديث بغير علم في أمور الدين تجرُؤ واستخفاف يقود للفتنة    هل يجوز الحج عن الوالدين؟ الإفتاء تُجيب    ضبط تشكيل عصابي انتحلوا صفة لسرقة المواطنين بعين شمس    البابا لاون الرابع عشر في قداس احتفالي: "رنموا للرب ترنيمة جديدة لأنه صنع العجائب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصطفي وعبدالمسيح قادا معركة الشرطة ضد الاحتلال
نشر في الأهرام اليومي يوم 25 - 01 - 2010

في الصفحة الأولي من الأهرام الصادر صباح السبت السادس والعشرين من يناير منذ ثمانية وخمسين عاما سنة‏1952‏ برز خبر عن بطل معركة الاسماعيلية التي قامت في اليوم السابق بين قوات الشرطة وبين القوات البريطانية حيث تم ترقيتة ترقية استثنائية ليصبح الملازم أول مصطفي رفعت حاملا رتبة اليوزباشي أي‏:‏ النقيب لكن الضابط الشاب لم يعلم بهذه الترقية فقد كان وقتها هو وزميله اليوزباشي عبدالمسيح مرقص ونحو ثلاثمائة من أفراد الشرطة البوليس وقتها من فرق بلوكات النظام‏..‏ داخل معتقل وسط ثكنات القوات البريطانية في صحراء مدينة الاسماعيلية‏.‏ ولم يعرف الرجال انه في ذلك اليوم شهدت كلية البوليس اجتماعا عاصفا للضباط‏..‏ وان مئات من رجال الشرطة البسطاء الفقراء تضامنا مع زملائهم في الاسماعيلية قد تركوا مقار أعمالهم في العاصمة واتجهوا إلي حديقة الأزبكية التي كانت تفرش مساحة كبيرة وسط القاهرة‏..‏ وجلسوا معتصمين رافضين النصائح والعودة للعمل إلا إذا تم الإفراج عن زملائهم المعتقلين وتعويضهم والتحقيق فيما جري‏..‏ ولم يعرفوا أيضا أن الجميع قد هب وثار في تظاهرات عمت شوارع القاهرة ومدن أخري بينما جلالة الملك يقيم في قصر عابدين مأدبة غداء فاخرة لقيادات الدولة ومؤسساتها ابتهاجا بمولد ولي عهده‏..‏ ولما اشتدت المظاهرات تحركت فئة معينة لاتزال أسرار تحركها غامضة لتحرق وتدمر وتنهب‏..‏ ومع اندلاع النيران في المحال والمنشآت‏..‏ اشتعلت الغيرة الوطنية في صدور الأحرار فكان قرار البكباشي المقدم جمال عبدالناصر بالتعجيل بقيام الثورة في ذلك العام بعد أن كان محددا لها ان تكون سنة‏1955‏ بعد استكمال الإعداد والتهيئة لها‏.‏
وفي اليوم التالي لنجاح الثورة مباشرة أرسل جمال عبدالناصر أحد الضباط الأحرار وهو الصاغ ابراهيم البغدادي إلي النقيب مصطفي رفعت الذي كان قد تم الافراج عنه وزملائه لكن وزير الداخلية مرتضي المراغي وجه له ولزميله اللوم والتوبيخ ثم أعطاهما إجازة مفتوحة‏,‏ وعندما جاءه ابراهيم البغدادي وكانت تربط بينهما صداقة قديمة كان في الاسكندرية مع والديه‏..‏ ولما أبلغه أن قائد الثورة يريده قام معه علي الفور للقائه في مقر القيادة بكوبري القبة وليستمع إليه عبدالناصر وهو يشرح تفصيلا لما حدث في الاسماعيلية وبعدها يقرر عودته وزميله الي الخدمة فورا ويلحقه بمكتب وزير الداخلية‏,‏ وليسأله عن موقف البوليس من الثورة فيعبر له مصطفي عن التأييد الكامل‏..‏ وينتهي اللقاء‏..‏ ليسرع الضابط الشاب الي كلية البوليس فهو أصلا كان يعمل بها‏..‏ وهناك يلتقي ببعض زملائه الذين كانوا متواجدين نظرا لحالة الطواريء في البلد ومنهم حسبما يتذكر العقيد أنور العبد والعقيد يوسف غراب والمقدم أحمد الوتيدي والرائد صلاح دسوقي‏..‏ ويروي لهم مقابلته مع جمال عبدالناصر ويتفقون علي إصدار بيان يعلن تأييد البوليس للثورة ويوقعونه مع زملاء آخرين لهم‏..‏ ويعلم مدير الكلية اللواء مصطفي المتولي بهذا فيسرع باستدعائهم ويوقع معهم البيان الذي سرعان ما أخذ طريقه إلي مجلس القيادة وإلي الإذاعة لتعلنه‏..‏ ولتنهال برقيات التأييد‏..‏ بينما يستعد الضابط الشاب لمباشرة عمله الجديد‏..‏ وليتذكر كل ما حدث له‏,‏ وهو ما أصبح ملحمة نروي عنها الآن ونحتفل بها‏..‏ ولكنها بالنسبة له‏..‏ قصة حياة لاتزال حتي اليوم أطال الله في عمره تتوهج بداخله‏..‏ وأمام عينيه‏.‏
إن البداية كانت في يوم من الأيام العديدة الفارقة في حياة هذا الشعب المصري الذي يمتد تاريخه إلي عشرة آلاف وخمسمائة سنة من التاريخ المكتوب المنقوش حسب آخر الاكتشافات وهو تحديدا يوم‏8‏ أكتوبر‏1951‏ عندما أعلن رئيس الحكومة مصطفي النحاس باشا انه بإسم الأمة وقع معاهدة‏1936..‏ وأنه باسم الأمة يعلن إلغاءها اليوم‏.‏ وتكهربت كل الأجواء بعد هذه الخطوة التاريخية وتطورت تداعياتها بسرعة شديدة‏..‏ وبدأت استقالات العاملين المصريين في المعسكرات البريطانية‏..‏ وبدأ توقف الموردين الذين يمدونها بالأغذية والمستلزمات‏..‏ وازاء الرفض البريطاني لهذا القرار المصري المنفرد‏..‏ بدأت إعادة انتشار القوات البريطانية علي طول قناة السويس والطواريء في مقر قيادتها الرئيسية بمدينة الاسماعيلية التي كانت في ذلك الوقت مدينة متواضعة تنقسم إلي منطقتين رئيسيتين‏:‏ الحي الافرنجي الذي يقيم به الموظفون الأجانب في شركة قناة السويس وبعض الضباط الانجليز الذين جاءوا معهم بعائلاتهم وقلة قليلة من المصريين‏..‏ وكانت مبانيه راقية وكذلك محلاته التجارية ومطاعمه وملاهيه ويمتد الي شاطيء القناة بأندية الشركة وروادها الخواجات‏..‏ وفي الناحية الأخري الحي العربي بمبانيه المتواضعة جدا‏..‏
وازاء هذا الموقف البريطاني‏..‏ انتفض المصريون فتشكلت جماعات فدائية لمهاجمة المعسكرات ولتشعر القوات البريطانية انها صارت غير مرغوب فيها‏..‏ وان الشعب يؤيد قرار إلغاء المعاهدة‏..‏ وانخرط في جماعات المقاومة فدائيون من مختلف شرائح الشعب المصري وكان مقر إنطلاقهم من الحي العربي‏..‏ ومعهم تعاون ضباط شباب من الجيش‏..‏ يدربونهم ويمدونهم بالسلاح ويرسمون معهم خطط مهاجمة المعسكرات بل ويشاركونهم تنفيذ العمليات‏..‏ ولم يكن رجال البوليس ضباطا وجنودا أقل وطنية وكان الموجودن منهم في الاسماعيلية يشاركون في الأعمال الفدائية‏..‏ كذلك فان الموجودين في القاهرة شعروا بضرورة ألا يفوتهم هذا الشرف فطلب بعضهم النقل للعمل في الاسماعيلية‏.‏
ويروي مصطفي رفعت أنه كان وقتها برتبة الملازم أول يعمل في كلية البوليس وطلب ان يذهب الي الاسماعيلية وكان قد تقدم بنفس الطلب اليوزباشي صلاح ذو الفقار‏..‏ وهكذا سافر الاثنان للانضمام إلي قوة الاسماعيلية وكان بها اليوزباشي فؤاد الدالي واليوزباشي عبدالمسيح مرقص‏..‏ وهناك يقول جري التنسيق كاملا بيننا وبين المواطنين البسطاء في حي العرب الذين كان حماسهم رائعا وشجاعتهم فائقة‏,‏ وكانوا يغيرون علي المعسكرات بلا خوف‏,‏ يتسللون إليها وينقلون صناديق كاملة من داخلها فإذا كانت بها أغذية نوزعها علي المواطنين وإذا كانت بها أسلحة نأخذها لنستعملها أما إذا كانت من نوعية معينة فاننا نعطيها للجيش‏,‏ ويحكي مصطفي رفعت عشرات الحكايات بعضها وصل إلي حافة الخطر‏..‏ وبعضها يمزج بين الخطورة والطرافة‏..‏ ومنها ان اشترك مع صلاح ذو الفقار في مغامرة اصطياد سيارة جيب يستقلها ضباط إنجليز وبعد أن نالا منها واشتعلت النيران فيها وفي ركابها‏..‏ أسرعا بالفرار‏..‏ جريا وقفزا من سطح منزل إلي آخر في حي العرب ولأنها منازل بسيطة فقد سقط بهما سقف أحدها ليجدا نفسيهما فوق رءوس أسرة كانت تجلس لتناول الطعام‏!‏
وتمضي الأيام‏..‏ وتستضيء ضفاف القناة بالأعمال الفدائية التي يشارك فيها الجميع من المصرية البسيطة أم صابر التي رفضت ان يفتشها الجنود الانجليز وهي تتجه إلي بيتها في كفر عبده بالسويس فقتلوها ليهب المواطنون ضد المستعمرين‏..‏ إلي الطفل نبيل منصور الذي اقترب من المعسكرات شمال الاسماعيلية ليلقي بداخلها كرة من النار‏..‏ إلي العديد من الأبطال‏..‏ وتصل الأحداث الي ذروتها وجاء اليوم الموعود‏.‏
كانت الساعة السادسة صباح الخامس والعشرين من يناير‏1952..‏ عندما فوجيء أبناء الاسماعيلية بالقوات البريطانية تنتشر لتحاصر مداخل ومخارج المدينة‏..‏ وتحتل مواقع في ميادينها وشوارعها‏..‏ وتحاصر مبني المحافظة أي مديرية الأمن التي كان بها نحو سبعمائة من جنود بلوكات النظام يوجدون في المقر المكون من طابقين وفي خيام بالحديقة الخلفية‏..‏ وكان نصفهم تقريبا مسلحا ببنادق متخلفة لي أنفيلد التي تطلق رصاصة واحدة‏..‏ ثم يعاد تعميرها‏..‏ والنصف الآخر مسلح بعصي‏..‏ ومعهم ضابطان كانا في الفندق المجاور وأسرعا الي المقر وهما النقيب عبدالمسيح مرقص والملازم أول مصطفي رفعت أما فؤاد الدالي ومصطفي عشوب فقد كانا في مبني مجاور به نحو مائتي جندي‏..‏ وكان صلاح ذو الفقار قد سافر إلي القاهرة في اليوم السابق الخميس لأنه كان عريسا حديث الزواج‏.‏
وقامت القوات الانجليزية بمحاصرة المبني حصارا كاملا‏..‏ وكان يقودها الجنرال أكسهام قائد منطقة الاسماعيلية المركزية بالنسبة للقوات‏.‏
وعبر مكبرات الصوت‏..‏ وجهت القوات الي قوة الشرطة إنذارا بالتسليم‏..‏ وحدد النداء أن يخرج الرجال بأسلحتهم منكسة وان يلقوا بها أمام الباب ويتقدموا رافعين أيديهم‏..‏ مستسلمين‏..‏ وإلا فانهم سيتعرضون للدمار‏.‏
هكذا سمع الرجال الضابطان والجنود البسطاء الانذار الحاسم‏.‏ فماذا فعلوا بالداخل؟‏..‏ وكيف تصرفوا؟
هنا‏..‏ يتوقف التاريخ ليسجل مشهدا من المشاهد العظيمة التي تتجلي فيها الشخصية المصرية بجوهرها الأصيل‏..‏
كان مصطفي وعبدالمسيح‏..‏ قد نظرا من النافذة‏..‏ وشاهدا القوات بحجمها الكثيف وأسلحتها الحديثة وفي مقدمتها دبابات سنتوريوم أحدث وأقوي الدبابات في ذلك الوقت مع المدفعية المحمولة والرشاشات سريعة الطلقات‏..‏ غير القنابل المستعدة‏..‏ وأدرك الضابطان ان القوة غير متكافئة‏..‏ اذ ماذا يمكن ان تفعل البنادق العتيقة وكمية الذخيرة المحدودة‏..‏ فهل يقبلان الإنذار بالاستسلام‏..‏ أم‏..‏ يرفضان‏..‏ وماذا سيفعل الجنود البسطاء؟‏!‏
وبينما كان كل منهما يقرر في أعماقه عدم الخضوع‏,‏ لكنه يختلس النظرات القلقة إلي الجنود‏,‏ إذا بالرجال في أصوات متتابعة‏,‏ وبالإجماع‏,‏ يطالبون الضابطين برفض الإنذار والمقاومة إلي آخر طلقة رصاص‏,‏ بل إلي آخر نفس يتبقي في صدورهم‏.‏
واحتضن الضابطان بعضهما بعضا‏,‏ واحتضنا الجنود‏,‏ وتوالي الإنذار‏,‏ ثم جاء طلب بخروج الضابط المسئول لمقابلة الجنرال إكسهام‏,‏ فاتفق الضابطان علي أن يخرج مصطفي رفعت بسبب أنه يجيد اللغة الإنجليزية‏,‏ وكان قد عاد قبل هذا اليوم المشهود بأشهر من لندن حيث كان في بعثة دراسية لتنمية مهاراته‏,‏ وبخطي ثابتة غادر المبني ليواجه الجنرال الذي رجل من سيارته وحوله أركان القيادة‏,‏ وليدور بينهما حوار مثير‏:‏
‏*‏ لماذا لم تسلموا‏..‏ ألا تخشون الموت؟
إننا نؤدي رسالتنا والأعمار بيد الله‏.‏
‏*‏ لكنك شاب‏..‏ والأفضل أن تنجو‏..‏ لماذا أنت هنا؟ لماذا لا ترحل؟ إننا نتولي الأمور هنا‏.‏
هذا عملي‏..‏ وهذه بلادنا‏..‏ والذي يجب أن يرحل لسنا نحن‏.‏
‏*‏ ماذا تقصد؟
أقصد ما فهمت ياجنرال‏.‏
‏*‏ إذن تحملوا النتائج‏..‏ وإذا تراجعتم فإنني في الانتظار‏.‏
وانصرف الضابط‏,‏ الملازم أول مصطفي رفعت‏,‏ عائدا إلي الداخل ليروي لزميله وللجنود ما جري من حديث‏,‏ وقبل أن ينتهي من روايته انهالت الدانات والقنابل والطلقات علي المبني ومن فيه‏..‏ وبدأت المعركة غير المتكافئة‏..‏ ونظم المصريون أنفسهم بطريقة جيدة‏,‏ فإنه حرصا علي كمية الذخيرة المحدودة لم يكن الجنود يطلقون الرصاص متتابعا عشوائا‏,‏ وإنما بتعليمات من الضابطين ومن حسن تقديرهم‏,‏ بحيث يكون لكل طلقة هدف محدد‏,‏ وفي الوقت نفسه فإن الجنود الذين ليست معهم بنادق كانوا يوزعون أنفسهم إما للإحلال مكان الذين يسقطون قتلي وجرحي‏,‏ وإما لإخلاء الضحايا والبحث عن أي أقمشة بتمزيق ملابسهم في الدواليب ومفروشات بعض المقاعد لإعداد ضمادات للمصابين‏,‏ وخلال ذلك لم تصدر من أحد آهة خوف‏,‏ ولم تصدر من جريح آهة ألم برغم خطورة الإصابات‏,‏ ومنها بتر الساق أو الذراع‏,‏ أو شق البطن‏,‏ أو النزيف‏,‏ ومازاد من الكارثة تهدم بعض أجزاء المبني علي الموجودين‏..‏ وعندما كان يتأزم الموقف كان مصطفي رفعت يخرج مشيرا بيده فيتوقف الضرب ويتجه إلي الجنرال لمحاولة تعديل شروط الانسحاب‏,‏ أو لطلب وقف إطلاق النار‏,‏ وكان يعلم أن طلباته لن تستجاب لكنه كان يطيل في شرحها‏,‏ لكي يعطي فرصة للرجال بالداخل لإخلاء الذين استشهدوا أو أصيبوا‏,‏ ولمحاولة وضع متاريس يحتمون وراءها وهم يتعاملون مع الإنجليز‏.‏
وقبل الظهر جاء الجندي الذي يعمل علي التليفون يقول‏:‏ إن وزير الداخلية الباشا فؤاد سراج الدين علي الخط‏,‏ وأسرع مصطفي رفعت فسأله الباشا عما يجري‏,‏ وشرح الضابط فقال الوزير‏:‏ يعني‏..‏ أنتم لا تريدون الاستسلام‏..‏ إذن علي خيرة الله‏,‏ وقبل أن تنتهي المكالمة سقطت قنبلة علي غرفة التليفون فانهارت وشاءت إرادة الله سبحانه أن ينجو مصطفي رفعت بينما يستشهد الجندي تحت الركام‏.‏
‏***‏
وكانت هذه الملحمة يوم الجمعة‏25‏ يناير‏1952‏ هي التي صنعت عيد الشرطة‏,‏ يوما مجيدا من أيام مصر‏,‏ وعندما يتذكرها مصطفي رفعت‏,‏ وهو الآن في منتصف عقد التسعينيات من عمره‏,‏ فإنه يروي أحداثها ببساطة لأنه يعتقد أن العمل الذي جري ليس شاذا‏,‏ وإنما هو حالة مصرية متكررة‏,‏ وأن الرجال الذين قاموا به ليسوا متفردين عن غيرهم وإنما هم‏,‏ وهو بينهم‏,‏ جزء من الشعب المصري‏,‏ مثلهم مثل غيرهم‏,‏ مثل إخوانهم الذين ناضلوا ضد الاستعمار في فلسطين‏,‏ ومثل آبائهم الذين خرجوا من ثورة‏1919‏ وشاركوا في ثورة عرابي ومثل الجدود والأجداد الذين جاهدوا ودافعوا عن مصر عبر التاريخ‏,‏ ومثل الأبناء الذين خاضوا حروب الصراع العربي الإسرائيلي وحققوا نصر أكتوبر المجيد عام‏1953,‏ والذين لايزالون يحرسون الحدود والوجود والتصدي للإرهاب والإجرام‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.