«النواب» يوافق على قبول اعتراض رئيس الجمهورية على «الإجراءات الجنائية»    البنك المركزي يقرر خفض أسعار العائد الأساسية بواقع 100 نقطة أساس    أسقفية الخدمات عضو التحالف الوطنى تنفذ دورة لتعليم الكبار بقرية سلامون بسوهاج    ترامب يشن هجوما على الديمقراطيين: يريدون إعطاء أموال الأمريكيين للمجرمين (تفاصيل)    استشهاد 53 فلسطينيًا فى قطاع غزة منذ فجر اليوم    قلق فى ليفربول من غياب طويل محتمل ل محمد صلاح    تواجد بن رمضان وحنبعل.. قائمة تونس لمواجهتي ساو تومي وناميبيا في تصفيات المونديال    مشاهدة مباراة الأهلي وماجديبورج بث مباشر في كأس العالم للأندية لليد.. صراع البرونزية    المنصورة يفوز على مالية كفر الزيات.. وبروكسي يتعادل مع الترسانة في دوري المحترفين    الأرصاد تكشف حالة الطقس غدًا الجمعة 3 أكتوبر 2025 وتفاصيل درجات الحرارة    قرار عاجل من التعليم لطلاب الثانوية العامة 2028 (الباقين للإعادة)    البحيرة تخصص مقرا دائما للهيئة العامة للكتاب بدمنهور    في الذكرى ال838 لفتح القدس.. «صلاح الدين» مدرسة في الوحدة والرحمة والانتصار    «هل الأحلام السيئة تتحقق لو قولناها؟».. خالد الجندي يُجيب    انطلاق النسخة التاسعة من مسابقة بورسعيد الدولية لحفظ القرآن الكريم والابتهال 30 يناير    رفع كفاءة وحدة الحضانات وعناية الأطفال بمستشفى شبين الكوم التعليمي    البابا تواضروس الثاني يلتقي رهبان دير القديس الأنبا هرمينا بالبداري    جامعة أسيوط تحتفل بتخرج الدفعة 39 من كلية التمريض.. وتُكرم المتفوقين    ضبط طن مخللات غير صالحة للاستخدام الآدمي بالقناطر الخيرية    حزب العدل ينظم تدريبًا موسعًا لمسئولي العمل الميداني والجماهيري استعدادً لانتخابات النواب    تركيا.. زلزال بقوة 5 درجات يضرب بحر مرمرة    الكرملين: الاتصالات بين الإدارتين الروسية والأمريكية تتم عبر "قنوات عمل"    مخاوف أمريكية من استغلال ترامب "الغلق" فى خفض القوى العاملة الفيدرالية    إخلاء سبيل سيدتين بالشرقية في واقعة تهديد بأعمال دجل    وزير الإسكان يتابع موقف تنفيذ وحدات "ديارنا" بمدينة أكتوبر الجديدة    لأول مرة.. الرقابة المالية تصدر ضوابط إنشاء المنصات الرقمية للاستثمار في وثائق صناديق الملكية الخاصة    نجل غادة عادل يكشف كواليس علاقة والدته بوالده    وزير الخارجية يتوجه إلى باريس لدعم حملة ترشح خالد العنانى فى اليونيسكو    المجلس القومي للمرأة يستكمل حملته الإعلامية "صوتك أمانة"    البلدوزر بخير.. أرقام عمرو زكى بعد شائعة تدهور حالته الصحية    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 2أكتوبر 2025.. موعد أذان العصر وجميع الفروض    إعلام فلسطيني: غارات إسرائيلية مكثفة على مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة    طرق الوقاية من فيروس HFMD    «أطفال بنها» تنجح في استخراج مسمار دباسة اخترق جدار بطن طفل    السيولة المحلية بالقطاع المصرفي ترتفع إلى 13.4 تريليون جنيه بنهاية أغسطس    لهجومه على مصر بمجلس الأمن، خبير مياه يلقن وزير خارجية إثيوبيا درسًا قاسيًا ويكشف كذبه    «غرقان في أحلامه» احذر هذه الصفات قبل الزواج من برج الحوت    عرض خيال الظل مصر جميلة وفيلم حكاية عروسة يفتتحان الدورة الأولى من مهرجان القاهرة لمسرح العرائس    بقيمة 500 مليار دولار.. ثروة إيلون ماسك تضاعفت مرتين ونصف خلال خمس سنوات    برناردو سيلفا: من المحبط أن نخرج من ملعب موناكو بنقطة واحدة فقط    السيطرة على حريق فى سيارة مندوب مبيعات بسبب ماس كهربائي بالمحلة    14 مخالفة مرورية لا يجوز التصالح فيها.. عقوبات رادعة لحماية الأرواح وضبط الشارع المصري    المصري يختتم استعداداته لمواجهة البنك الأهلي والكوكي يقود من المدرجات    وست هام يثير جدلا عنصريا بعد تغريدة عن سانتو!    وزير الري يكشف تداعيات واستعدادات مواجهة فيضان النيل    الكشف على 103 حالة من كبار السن وصرف العلاج بالمجان ضمن مبادرة "لمسة وفاء"    ياسين منصور نائبًا.. محمود الخطيب يعلن قائمته النهائية    جاء من الهند إلى المدينة.. معلومات لا تعرفها عن شيخ القراء بالمسجد النبوى    تفاصيل انطلاق الدورة ال7 من معرض "تراثنا" بمشاركة أكثر من 1000 عارض    استقالة 14 عضوا من مجلس الشيوخ لعزمهم الترشح في البرلمان    السفير التشيكي يزور دير المحرق بالقوصية ضمن جولته بمحافظة أسيوط    تحذيرات مهمة من هيئة الدواء: 10 أدوية ومستلزمات مغشوشة (تعرف عليها)    وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية والتعاون الدولي السوداني    جامعة بنها تطلق قافلة طبية لرعاية كبار السن بشبرا الخيمة    انهيار سلم منزل وإصابة سيدتين فى أخميم سوهاج    «الداخلية»: القبض على مدرس بتهمة التعدي بالضرب على أحد الطلبة خلال العام الماضي    حماية العقل بين التكريم الإلهي والتقوى الحقيقية    «التضامن الاجتماعي» بالوادي الجديد: توزيع مستلزمات مدرسية على طلاب قرى الأربعين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصطفي وعبدالمسيح قادا معركة الشرطة ضد الاحتلال
نشر في الأهرام اليومي يوم 25 - 01 - 2010

في الصفحة الأولي من الأهرام الصادر صباح السبت السادس والعشرين من يناير منذ ثمانية وخمسين عاما سنة‏1952‏ برز خبر عن بطل معركة الاسماعيلية التي قامت في اليوم السابق بين قوات الشرطة وبين القوات البريطانية حيث تم ترقيتة ترقية استثنائية ليصبح الملازم أول مصطفي رفعت حاملا رتبة اليوزباشي أي‏:‏ النقيب لكن الضابط الشاب لم يعلم بهذه الترقية فقد كان وقتها هو وزميله اليوزباشي عبدالمسيح مرقص ونحو ثلاثمائة من أفراد الشرطة البوليس وقتها من فرق بلوكات النظام‏..‏ داخل معتقل وسط ثكنات القوات البريطانية في صحراء مدينة الاسماعيلية‏.‏ ولم يعرف الرجال انه في ذلك اليوم شهدت كلية البوليس اجتماعا عاصفا للضباط‏..‏ وان مئات من رجال الشرطة البسطاء الفقراء تضامنا مع زملائهم في الاسماعيلية قد تركوا مقار أعمالهم في العاصمة واتجهوا إلي حديقة الأزبكية التي كانت تفرش مساحة كبيرة وسط القاهرة‏..‏ وجلسوا معتصمين رافضين النصائح والعودة للعمل إلا إذا تم الإفراج عن زملائهم المعتقلين وتعويضهم والتحقيق فيما جري‏..‏ ولم يعرفوا أيضا أن الجميع قد هب وثار في تظاهرات عمت شوارع القاهرة ومدن أخري بينما جلالة الملك يقيم في قصر عابدين مأدبة غداء فاخرة لقيادات الدولة ومؤسساتها ابتهاجا بمولد ولي عهده‏..‏ ولما اشتدت المظاهرات تحركت فئة معينة لاتزال أسرار تحركها غامضة لتحرق وتدمر وتنهب‏..‏ ومع اندلاع النيران في المحال والمنشآت‏..‏ اشتعلت الغيرة الوطنية في صدور الأحرار فكان قرار البكباشي المقدم جمال عبدالناصر بالتعجيل بقيام الثورة في ذلك العام بعد أن كان محددا لها ان تكون سنة‏1955‏ بعد استكمال الإعداد والتهيئة لها‏.‏
وفي اليوم التالي لنجاح الثورة مباشرة أرسل جمال عبدالناصر أحد الضباط الأحرار وهو الصاغ ابراهيم البغدادي إلي النقيب مصطفي رفعت الذي كان قد تم الافراج عنه وزملائه لكن وزير الداخلية مرتضي المراغي وجه له ولزميله اللوم والتوبيخ ثم أعطاهما إجازة مفتوحة‏,‏ وعندما جاءه ابراهيم البغدادي وكانت تربط بينهما صداقة قديمة كان في الاسكندرية مع والديه‏..‏ ولما أبلغه أن قائد الثورة يريده قام معه علي الفور للقائه في مقر القيادة بكوبري القبة وليستمع إليه عبدالناصر وهو يشرح تفصيلا لما حدث في الاسماعيلية وبعدها يقرر عودته وزميله الي الخدمة فورا ويلحقه بمكتب وزير الداخلية‏,‏ وليسأله عن موقف البوليس من الثورة فيعبر له مصطفي عن التأييد الكامل‏..‏ وينتهي اللقاء‏..‏ ليسرع الضابط الشاب الي كلية البوليس فهو أصلا كان يعمل بها‏..‏ وهناك يلتقي ببعض زملائه الذين كانوا متواجدين نظرا لحالة الطواريء في البلد ومنهم حسبما يتذكر العقيد أنور العبد والعقيد يوسف غراب والمقدم أحمد الوتيدي والرائد صلاح دسوقي‏..‏ ويروي لهم مقابلته مع جمال عبدالناصر ويتفقون علي إصدار بيان يعلن تأييد البوليس للثورة ويوقعونه مع زملاء آخرين لهم‏..‏ ويعلم مدير الكلية اللواء مصطفي المتولي بهذا فيسرع باستدعائهم ويوقع معهم البيان الذي سرعان ما أخذ طريقه إلي مجلس القيادة وإلي الإذاعة لتعلنه‏..‏ ولتنهال برقيات التأييد‏..‏ بينما يستعد الضابط الشاب لمباشرة عمله الجديد‏..‏ وليتذكر كل ما حدث له‏,‏ وهو ما أصبح ملحمة نروي عنها الآن ونحتفل بها‏..‏ ولكنها بالنسبة له‏..‏ قصة حياة لاتزال حتي اليوم أطال الله في عمره تتوهج بداخله‏..‏ وأمام عينيه‏.‏
إن البداية كانت في يوم من الأيام العديدة الفارقة في حياة هذا الشعب المصري الذي يمتد تاريخه إلي عشرة آلاف وخمسمائة سنة من التاريخ المكتوب المنقوش حسب آخر الاكتشافات وهو تحديدا يوم‏8‏ أكتوبر‏1951‏ عندما أعلن رئيس الحكومة مصطفي النحاس باشا انه بإسم الأمة وقع معاهدة‏1936..‏ وأنه باسم الأمة يعلن إلغاءها اليوم‏.‏ وتكهربت كل الأجواء بعد هذه الخطوة التاريخية وتطورت تداعياتها بسرعة شديدة‏..‏ وبدأت استقالات العاملين المصريين في المعسكرات البريطانية‏..‏ وبدأ توقف الموردين الذين يمدونها بالأغذية والمستلزمات‏..‏ وازاء الرفض البريطاني لهذا القرار المصري المنفرد‏..‏ بدأت إعادة انتشار القوات البريطانية علي طول قناة السويس والطواريء في مقر قيادتها الرئيسية بمدينة الاسماعيلية التي كانت في ذلك الوقت مدينة متواضعة تنقسم إلي منطقتين رئيسيتين‏:‏ الحي الافرنجي الذي يقيم به الموظفون الأجانب في شركة قناة السويس وبعض الضباط الانجليز الذين جاءوا معهم بعائلاتهم وقلة قليلة من المصريين‏..‏ وكانت مبانيه راقية وكذلك محلاته التجارية ومطاعمه وملاهيه ويمتد الي شاطيء القناة بأندية الشركة وروادها الخواجات‏..‏ وفي الناحية الأخري الحي العربي بمبانيه المتواضعة جدا‏..‏
وازاء هذا الموقف البريطاني‏..‏ انتفض المصريون فتشكلت جماعات فدائية لمهاجمة المعسكرات ولتشعر القوات البريطانية انها صارت غير مرغوب فيها‏..‏ وان الشعب يؤيد قرار إلغاء المعاهدة‏..‏ وانخرط في جماعات المقاومة فدائيون من مختلف شرائح الشعب المصري وكان مقر إنطلاقهم من الحي العربي‏..‏ ومعهم تعاون ضباط شباب من الجيش‏..‏ يدربونهم ويمدونهم بالسلاح ويرسمون معهم خطط مهاجمة المعسكرات بل ويشاركونهم تنفيذ العمليات‏..‏ ولم يكن رجال البوليس ضباطا وجنودا أقل وطنية وكان الموجودن منهم في الاسماعيلية يشاركون في الأعمال الفدائية‏..‏ كذلك فان الموجودين في القاهرة شعروا بضرورة ألا يفوتهم هذا الشرف فطلب بعضهم النقل للعمل في الاسماعيلية‏.‏
ويروي مصطفي رفعت أنه كان وقتها برتبة الملازم أول يعمل في كلية البوليس وطلب ان يذهب الي الاسماعيلية وكان قد تقدم بنفس الطلب اليوزباشي صلاح ذو الفقار‏..‏ وهكذا سافر الاثنان للانضمام إلي قوة الاسماعيلية وكان بها اليوزباشي فؤاد الدالي واليوزباشي عبدالمسيح مرقص‏..‏ وهناك يقول جري التنسيق كاملا بيننا وبين المواطنين البسطاء في حي العرب الذين كان حماسهم رائعا وشجاعتهم فائقة‏,‏ وكانوا يغيرون علي المعسكرات بلا خوف‏,‏ يتسللون إليها وينقلون صناديق كاملة من داخلها فإذا كانت بها أغذية نوزعها علي المواطنين وإذا كانت بها أسلحة نأخذها لنستعملها أما إذا كانت من نوعية معينة فاننا نعطيها للجيش‏,‏ ويحكي مصطفي رفعت عشرات الحكايات بعضها وصل إلي حافة الخطر‏..‏ وبعضها يمزج بين الخطورة والطرافة‏..‏ ومنها ان اشترك مع صلاح ذو الفقار في مغامرة اصطياد سيارة جيب يستقلها ضباط إنجليز وبعد أن نالا منها واشتعلت النيران فيها وفي ركابها‏..‏ أسرعا بالفرار‏..‏ جريا وقفزا من سطح منزل إلي آخر في حي العرب ولأنها منازل بسيطة فقد سقط بهما سقف أحدها ليجدا نفسيهما فوق رءوس أسرة كانت تجلس لتناول الطعام‏!‏
وتمضي الأيام‏..‏ وتستضيء ضفاف القناة بالأعمال الفدائية التي يشارك فيها الجميع من المصرية البسيطة أم صابر التي رفضت ان يفتشها الجنود الانجليز وهي تتجه إلي بيتها في كفر عبده بالسويس فقتلوها ليهب المواطنون ضد المستعمرين‏..‏ إلي الطفل نبيل منصور الذي اقترب من المعسكرات شمال الاسماعيلية ليلقي بداخلها كرة من النار‏..‏ إلي العديد من الأبطال‏..‏ وتصل الأحداث الي ذروتها وجاء اليوم الموعود‏.‏
كانت الساعة السادسة صباح الخامس والعشرين من يناير‏1952..‏ عندما فوجيء أبناء الاسماعيلية بالقوات البريطانية تنتشر لتحاصر مداخل ومخارج المدينة‏..‏ وتحتل مواقع في ميادينها وشوارعها‏..‏ وتحاصر مبني المحافظة أي مديرية الأمن التي كان بها نحو سبعمائة من جنود بلوكات النظام يوجدون في المقر المكون من طابقين وفي خيام بالحديقة الخلفية‏..‏ وكان نصفهم تقريبا مسلحا ببنادق متخلفة لي أنفيلد التي تطلق رصاصة واحدة‏..‏ ثم يعاد تعميرها‏..‏ والنصف الآخر مسلح بعصي‏..‏ ومعهم ضابطان كانا في الفندق المجاور وأسرعا الي المقر وهما النقيب عبدالمسيح مرقص والملازم أول مصطفي رفعت أما فؤاد الدالي ومصطفي عشوب فقد كانا في مبني مجاور به نحو مائتي جندي‏..‏ وكان صلاح ذو الفقار قد سافر إلي القاهرة في اليوم السابق الخميس لأنه كان عريسا حديث الزواج‏.‏
وقامت القوات الانجليزية بمحاصرة المبني حصارا كاملا‏..‏ وكان يقودها الجنرال أكسهام قائد منطقة الاسماعيلية المركزية بالنسبة للقوات‏.‏
وعبر مكبرات الصوت‏..‏ وجهت القوات الي قوة الشرطة إنذارا بالتسليم‏..‏ وحدد النداء أن يخرج الرجال بأسلحتهم منكسة وان يلقوا بها أمام الباب ويتقدموا رافعين أيديهم‏..‏ مستسلمين‏..‏ وإلا فانهم سيتعرضون للدمار‏.‏
هكذا سمع الرجال الضابطان والجنود البسطاء الانذار الحاسم‏.‏ فماذا فعلوا بالداخل؟‏..‏ وكيف تصرفوا؟
هنا‏..‏ يتوقف التاريخ ليسجل مشهدا من المشاهد العظيمة التي تتجلي فيها الشخصية المصرية بجوهرها الأصيل‏..‏
كان مصطفي وعبدالمسيح‏..‏ قد نظرا من النافذة‏..‏ وشاهدا القوات بحجمها الكثيف وأسلحتها الحديثة وفي مقدمتها دبابات سنتوريوم أحدث وأقوي الدبابات في ذلك الوقت مع المدفعية المحمولة والرشاشات سريعة الطلقات‏..‏ غير القنابل المستعدة‏..‏ وأدرك الضابطان ان القوة غير متكافئة‏..‏ اذ ماذا يمكن ان تفعل البنادق العتيقة وكمية الذخيرة المحدودة‏..‏ فهل يقبلان الإنذار بالاستسلام‏..‏ أم‏..‏ يرفضان‏..‏ وماذا سيفعل الجنود البسطاء؟‏!‏
وبينما كان كل منهما يقرر في أعماقه عدم الخضوع‏,‏ لكنه يختلس النظرات القلقة إلي الجنود‏,‏ إذا بالرجال في أصوات متتابعة‏,‏ وبالإجماع‏,‏ يطالبون الضابطين برفض الإنذار والمقاومة إلي آخر طلقة رصاص‏,‏ بل إلي آخر نفس يتبقي في صدورهم‏.‏
واحتضن الضابطان بعضهما بعضا‏,‏ واحتضنا الجنود‏,‏ وتوالي الإنذار‏,‏ ثم جاء طلب بخروج الضابط المسئول لمقابلة الجنرال إكسهام‏,‏ فاتفق الضابطان علي أن يخرج مصطفي رفعت بسبب أنه يجيد اللغة الإنجليزية‏,‏ وكان قد عاد قبل هذا اليوم المشهود بأشهر من لندن حيث كان في بعثة دراسية لتنمية مهاراته‏,‏ وبخطي ثابتة غادر المبني ليواجه الجنرال الذي رجل من سيارته وحوله أركان القيادة‏,‏ وليدور بينهما حوار مثير‏:‏
‏*‏ لماذا لم تسلموا‏..‏ ألا تخشون الموت؟
إننا نؤدي رسالتنا والأعمار بيد الله‏.‏
‏*‏ لكنك شاب‏..‏ والأفضل أن تنجو‏..‏ لماذا أنت هنا؟ لماذا لا ترحل؟ إننا نتولي الأمور هنا‏.‏
هذا عملي‏..‏ وهذه بلادنا‏..‏ والذي يجب أن يرحل لسنا نحن‏.‏
‏*‏ ماذا تقصد؟
أقصد ما فهمت ياجنرال‏.‏
‏*‏ إذن تحملوا النتائج‏..‏ وإذا تراجعتم فإنني في الانتظار‏.‏
وانصرف الضابط‏,‏ الملازم أول مصطفي رفعت‏,‏ عائدا إلي الداخل ليروي لزميله وللجنود ما جري من حديث‏,‏ وقبل أن ينتهي من روايته انهالت الدانات والقنابل والطلقات علي المبني ومن فيه‏..‏ وبدأت المعركة غير المتكافئة‏..‏ ونظم المصريون أنفسهم بطريقة جيدة‏,‏ فإنه حرصا علي كمية الذخيرة المحدودة لم يكن الجنود يطلقون الرصاص متتابعا عشوائا‏,‏ وإنما بتعليمات من الضابطين ومن حسن تقديرهم‏,‏ بحيث يكون لكل طلقة هدف محدد‏,‏ وفي الوقت نفسه فإن الجنود الذين ليست معهم بنادق كانوا يوزعون أنفسهم إما للإحلال مكان الذين يسقطون قتلي وجرحي‏,‏ وإما لإخلاء الضحايا والبحث عن أي أقمشة بتمزيق ملابسهم في الدواليب ومفروشات بعض المقاعد لإعداد ضمادات للمصابين‏,‏ وخلال ذلك لم تصدر من أحد آهة خوف‏,‏ ولم تصدر من جريح آهة ألم برغم خطورة الإصابات‏,‏ ومنها بتر الساق أو الذراع‏,‏ أو شق البطن‏,‏ أو النزيف‏,‏ ومازاد من الكارثة تهدم بعض أجزاء المبني علي الموجودين‏..‏ وعندما كان يتأزم الموقف كان مصطفي رفعت يخرج مشيرا بيده فيتوقف الضرب ويتجه إلي الجنرال لمحاولة تعديل شروط الانسحاب‏,‏ أو لطلب وقف إطلاق النار‏,‏ وكان يعلم أن طلباته لن تستجاب لكنه كان يطيل في شرحها‏,‏ لكي يعطي فرصة للرجال بالداخل لإخلاء الذين استشهدوا أو أصيبوا‏,‏ ولمحاولة وضع متاريس يحتمون وراءها وهم يتعاملون مع الإنجليز‏.‏
وقبل الظهر جاء الجندي الذي يعمل علي التليفون يقول‏:‏ إن وزير الداخلية الباشا فؤاد سراج الدين علي الخط‏,‏ وأسرع مصطفي رفعت فسأله الباشا عما يجري‏,‏ وشرح الضابط فقال الوزير‏:‏ يعني‏..‏ أنتم لا تريدون الاستسلام‏..‏ إذن علي خيرة الله‏,‏ وقبل أن تنتهي المكالمة سقطت قنبلة علي غرفة التليفون فانهارت وشاءت إرادة الله سبحانه أن ينجو مصطفي رفعت بينما يستشهد الجندي تحت الركام‏.‏
‏***‏
وكانت هذه الملحمة يوم الجمعة‏25‏ يناير‏1952‏ هي التي صنعت عيد الشرطة‏,‏ يوما مجيدا من أيام مصر‏,‏ وعندما يتذكرها مصطفي رفعت‏,‏ وهو الآن في منتصف عقد التسعينيات من عمره‏,‏ فإنه يروي أحداثها ببساطة لأنه يعتقد أن العمل الذي جري ليس شاذا‏,‏ وإنما هو حالة مصرية متكررة‏,‏ وأن الرجال الذين قاموا به ليسوا متفردين عن غيرهم وإنما هم‏,‏ وهو بينهم‏,‏ جزء من الشعب المصري‏,‏ مثلهم مثل غيرهم‏,‏ مثل إخوانهم الذين ناضلوا ضد الاستعمار في فلسطين‏,‏ ومثل آبائهم الذين خرجوا من ثورة‏1919‏ وشاركوا في ثورة عرابي ومثل الجدود والأجداد الذين جاهدوا ودافعوا عن مصر عبر التاريخ‏,‏ ومثل الأبناء الذين خاضوا حروب الصراع العربي الإسرائيلي وحققوا نصر أكتوبر المجيد عام‏1953,‏ والذين لايزالون يحرسون الحدود والوجود والتصدي للإرهاب والإجرام‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.