ما بين احتلال العراق في أواخر مارس2003 وحتي رحيل آخر وحدة عسكرية أمريكية عنه في الثامن عشر من ديسمبر الحالي, لعبت الميديا الأمريكية دورا لا يقل أهمية وخطورة عن الدور الذي لعبته آلة الحرب. سواء في التمهيد لهذه الحرب أو في تبريرها أو في إدارتها بحشد التأييد الغربي, وإقناع الرأي العام الأمريكي بضرورة مواصلتها وتحييد الرأي العام العالمي وعرقلته عن إدانتها بسيل جارف من الادعاءات والأكاذيب وفق سياسة تضليل معدة بعناية من جانب خبراء محترفين. ومثلما بدأت لعبة الاحتلال بتقارير مفبركة وادعاءات باطلة وافتراءات مكشوفة وتدبير شيطاني لتحقيق أهداف أخري غير المعلنة, تواصل الميديا الأمريكية النهج نفسه في وصف الانسحاب بتأكيد أشياء غير حقيقية لصرف الانتباه عن الأهداف الحقيقية من ورائه. فقد تدرجت وسائل الإعلام الأمريكية التابعة للحكومة في تبني وجهة نظرها والتسويق لها في ترديد أهداف مثل تدمير أسلحة الدمار الشامل في العراق, ثم تحريره من يد الطاغية الراحل صدام حسين إلي تعليم العراقيين الديمقراطية, ثم أخيرا الأمن بحجة أن العراقيين غير قادرين علي تأمين أنفسهم وذلك لتبرير بقاء القوات الأمريكية علي أراضي العراق لأكثر من ثماني سنوات ولإعطائها شرعية ما لوجودها وتسويغ انتهاكاتها لحقوق الإنسان العراقي من قتل واغتصاب وتدمير لكل شيء. وبعدما أثبتت تقارير الخبراء والمراقبين أكذوبة أسلحة الدمار الشامل بما يقوض من الأساس فكرة الحرب ويضع الإدارة الأمريكية في قفص الاتهام لاحتلالها بلدا آخر بلامبرر كان لابد من ممارسة المزيد من القمع بدعم قوات الاحتلال ب30 ألف جندي إضافي لقتل المزيد من العراقيين ردا علي تصاعد المقاومة ضد الاحتلال( بدافع كاذب هو إقرار الأمن للعراقيين) فيما بقيت آلة القتل الأمريكية تزداد توحشا بحقهم في عام2007. أما الآن.. وبعد أيام علي الانسحاب الأمريكي من العراق, وانتهاء دور الآلة العسكرية, فمازالت الآلة الإعلامية تعمل علي تبييض صفحة الأمريكيين والتقليل من شأن الانتهاكات الوحشية التي ارتكبتها واشنطن في بلاد الرافدين والتي يمكن تلخيصها وفقا لبعض التحليلات السياسية في مقتل مئات آلاف العراقيين الذين قدرهم نيتا كراوفورد الأستاذ بجامعة بوسطن الأمريكية ب126 ألف مدني عراقي و20 ألف جندي وشرطي و19 ألف متمرد, بإجمالي يصل إلي أكثر من165 ألف قتيل عراقي وهو تقدير بالغ التواضع قياسا بالعدد الحقيقي من الضحايا وذلك بغرض التقليل من شأن المجازر الأمريكية اليومية التي ارتكبت في العراق علي مدي سنوات, مع ملاحظة وصف عناصر المقاومة العراقية بالمتمردين في قلب سافر لحقائق الأمور علي الأرض. بينما ركزت التقارير الأمريكية علي تكلفة الحرب التي تحملتها الولاياتالمتحدة كأنها هي تقدم خدمة إنسانية خيرية للعراقيين من ميزانيتها الخاصة ولم تكن تدمر كل مقدرات العراق البشرية والثقافية والاقتصادية والصحية والسياسية, وكأن واشنطن كانت مضطرة لخوض الحرب بدون أطماع أو أهداف غير معلنة. كشف الحساب يتحدث عن تحمل الأمريكيين ما بين800 مليار دولار و4 تريليونات دولار, الأولي ربما حساب القذائف ومرتبات الضباط والجنود والمرتزقة ووقود حاملات الطائرات والمدرعات والدبابات وغيرها وإعاشة قوات الغزو من شئون إدارية وذخائر, أما الرقم الثاني فربما يتطرق إلي الآثار الاقتصادية المترتبة علي الحرب وتكلفتها من وجهة نظر خبراء اقتصاديين أجملوا فاتورة الحرب كلها مع بعض المبالغات. أما الجانب الأهم فلم يرد في التقرير ولا في غيره من التقارير الأمريكية المنحازة مثل كم مليون برميل بترول سرقتها الولاياتالمتحدة من العراق منذ وطأت قدماها أرضه؟ وبكم تقدر هذه الثروة البترولية الهائلة التي تدفقت بلا حساب منذ اليوم الأول للغزو مقارنة بتكلفة الحرب التي تمن بها وكالات الأنباء والصحف الأمريكية علي العراقيين؟ التقارير تناولت تكلفة الحرب علي أمريكا وتجاهلت تماما مكاسبها, فإذا كانت أمريكا خسرت ما يقدر بأربعة آلاف وخمسمائة جندي فكم عراقيا قتلته؟!, وإذا كانت تكلفه الحرب4 تريليونات دولار, فكم من المبالغ كسبت جراء الاستيلاء علي البترول العراقي مجانا وبكميات خيالية علي مدي8 سنوات احتلال؟ البترول وليس صدام ولا أسلحته هو من جاء بالجيوش الانجلوساكسونية للعراق, وهو عكس ما تبنته الإدارة الأمريكية بوسائل إعلامها وبمؤسسة الدبلوماسية بها منذ بدء الاحتلال حتي انتهائه. وبين عشرات التقارير التي تناولت مشهد الانسحاب يذكر احدها أن عبء ضمان أمن وإعادة إعمار العراق يقع علي عاتق قادة وزعماء تلك البلاد التي دمرتها الحرب, بما يوحي ضمنا أن قوات الاحتلال علي عكس ما كانت تعمل تماما وفرت الأمن للعراقيين وتحملت جانبا من إعادة الإعمار والانسحاب وحده ينقل هذه المسئولية للعراقيين!! فيما تعبير( دمرتها الحرب) يضع الحرب وكأنها مبنية للمجهول وبلافاعل فهل شنت الحرب نفسها أم شنتها الولاياتالمتحدة؟ فالأمريكيون هم من جرد العراقيين من الإحساس بالأمن وقتلهم ودمر مدنهم وقراهم واقتصادهم وبنيتهم التحتية وجيشهم ونظامهم السياسي وشرطتهم.. والإيحاء بأن الاحتلال كانت له مزايا أمر بالغ الخبث والدهاء ويضلل القارئ ويحول المتهم إلي برئ. يذكر أحد التقارير عن وكالة أنباء الاسوشيتدبرس الأمريكية أن السيناتور الأمريكي( باراك أوباما) الذي يتربع الآن علي عرش البيت الأبيض كرئيس للولايات المتحدة جعل من قضية الانسحاب من العراق التعهد الرئيسي في حملته الانتخابية منذ وصوله للحكم في يناير2009, بما يعني أن الانسحاب الذي تم بعد عامين من توليه مسئولية الرئاسة لرفع الظلم الواقع علي دولة تم احتلالها بتقارير مزورة وأكاذيب ملفقة, ولكن واقع الأمر أن واشنطن استنفدت أسباب بقائها في العراق, حيث استولت علي ما استولت عليه من بترول ودمرت الجيش وغيرت النظام وتركت البلاد علي شفير حرب أهلية بعدما أخلت بتوازن القوي في العراق مع كردستان شبه مستقل وأجواء قابلة للانفجار بين لحظة وأخري بين السنة والشيعة لاسيما بعد اصدار أمر اعتقال طارق الهاشمي وإصرار المالكي علي تنفيذه بما ينذر بمواجهات دموية بين الطائفتين. والأهم من ذلك ان غرض سحب القوات هو إبعادها عن مرمي النيران الإيرانية التي تنوي إسرائيل توجيه ضربة عسكرية قوية لمنشآتها النووية بمباركة أمريكية, لذا قررت الانسحاب حتي لا تضطر للمغامرة بوجودهم في جوار الجمهورية الإسلامية, وليس مصادفة أن يتزامن الانسحاب الأمريكي مع اعلان واشنطن إجراء أكبر مناورات عسكرية مشتركة مع إسرائيل في تاريخ البلدين خلال الربيع المقبل, فالانسحاب له دوافع أخري غير الوفاء بتعهد أوباما مما يؤكد خطورة دور الميديا الأمريكية في الحرب وفي الانسحاب ايضا.