لست من الذين يحبذون التعليق المباشر علي تصريحات او مقابلات لرموز فكرية أو سياسية, ولكني هذه المرة سأتجاوز عن هذه القاعدة فالحديث الذي أدلي به د. أحمد زويل, الحائز علي جائزة نوبل للعلوم في أحد البرامج التليفزيونية معلقا فيه علي الاحداث الجسام التي شهدتها مصر مطلع الاسبوع الجاري, يستحق وقفة تأمل, وقبل ذلك يستحق كلمة تقدير كبيرة. فالرجل, وباعتباره عالما يقدر قيمة العلم وقيمة التراث المعرفي وقيمة البحث المنهجي, دمعت عنييه حين جاء ذكر الحريق الذي أتي علي المجمع العلمي المصري وما فيه من كنوز علمية وتراثية ووثائق ومخطوطات نادرة لاتقدر بثمن. كان الرجل صادقا معبرا عن حزن عميق لا يصيب إلا من يملك مشاعر إنسانية طبيعية وعقلا راجحا وحكمة السنين. الرجل أيضا كان مصيبا حين طرح فكرته البسيطة والعلمية في آن واحد, وهي أن يقوم من أسماهم بالثوار الحقيقيين بالانسحاب من التحرير وعمل هدنة والتركيز علي مايفيد الوطن, وبالتالي يمكن ان نفرز بين هؤلاء الثوار أصحاب المشروع الثوري محل الاحترام والتقدير, وهؤلاء الخارجين علي القانون الذين يدور الحديث حول مسئوليتهم المباشرة فيما جري من اعتداءات علي المجمع العلمي والاشتباك مع قوات الامن في محيط شارع قصر العيني والمباني الحكومية العتيدة فيه, والتي تعد احد رموز سيادة الوطن. الفكرة علي بساطتها إنما تقدم حلا سريعا لتلك الأزمة التي تصاعدت ومازالت قابلة للانفجار, في وقت تحتاج فيه مصر قدرا من الهدوء المحسوب لكي تواصل التخلص من نظام فاسد قضي علي كل شيء, وتبني نظاما منضبطا تباهي به الامم حولها. وللأسف الشديد, ورغم كثرة المتحدثين باسم الثورة والثوار, لم نسمع احدا من الذين توجه إليهم د. زويل يعلق علي هذه الفكرة العبقرية, أو يفندها او حتي ينكرها. الكل للأسف صمت وركز جهده في إدانة القوات المسلحة والمجلس العسكري باعتبار ان البطولة والثورية السائدة الآن في القنوات الفضائية والصحف السيارة قد تم اختزالها في الهجوم علي الجيش المصري وتشويه سمعته بداية من احداث جندي وحتي أعلي رتبة. صحيح هناك بعض محاولات من شيوخ ورموز سياسية لفك الاشتباك بين قوات الامن وهؤلاء المصرين علي البقاء في الميدان ومواصلة الاحتكاك بقوات الامن. وصحيح ايضا ان هذه المحاولات فشلت بل وتم الاعتداء علي بعض القائمين بها من الرموز السياسية والنواب المنتخبين حديثا. هذا الفشل يعني اننا امام محتجين من نوع خاص, لا صلة له بالرموز كثيرة الظهور في الإعلام, ولا صلة له بفكر الثورة ذاتها, ولكنه وهذا هو بيت القصيد يستفيد من حالة التغطية الإعلامية والدعائية غير المسبوقة لكل من يرمي حجرا بوجه الشرطة والجيش, ولكل من يحرق أثرا او يخرب مبني حكومي, أو يصيب دولاب العمل الوطني في مقتل. هذه التغطية الاعلامية هي التي تحول الحق باطلا, وتجعل الاجرام بطولة تستحق الاشادة. والأمثلة امامنا لا تعد ولا تحصي. ومن يتأمل دعوة د. زويل يدرك علي الفور ان الرجل يشير ولو ضمنا الي ان هناك صنفين في التحرير الاول هم صنف الثوار الحقيقيين, والثاني هم صنف الثوار المزيفين. بالقطع هذه تفرقة مهمة, فالثوار الحقيقيون لا يخربون بلدهم بصورة متعمدة ومقصودة ومنهجية كما رأينا وسمعنا, ولا يحرقون تراثها العلمي النادر والذي يعد مبعث فخر ورقي للانسانية جميعا, ولا يتحالفون مع أطفال الشوارع والمهمشين مستغلين اياهم في اثارة التوتر والخراب والدمار والمناوشات والاحتكاكات مع قوات الامن من الجيش والشرطة, ولا يقدمون الاموال والاطمطة وأدوية خاصة لمن يهاجم المنشآت العامة والمصالح الحكومية, ولا يدفعون بالمسجلين خطر الي الاعتصام امام المصالح الحكومية لتعطيل دولاب العمل ووقف مصالح الناس. وبالقطع من يفعل مثل ذلك هم الثوار المزيفون الذين يستحقون عقاب الدنيا وعذاب الآخرة. الثوار الحقيقيون هم الذين يرفعون صوتهم بالحق دون تزيد او استعلاء علي الآخرين, هم الذين يؤمنون بحق الناس في حياة كريمة ويفتحون امامهم ابواب التطور والرقي من خلال فعل هادف ومشروعات تنموية مهما كانت صغيرة الحجم. الثوار الحقيقيون هم الذين يدركون ان تحقيق اهداف الثورة يتم من خلال الانتقال من فعل ثوري وشعبي الي عمل مؤسسي يؤدي الي دولة القانون والحق والعدالة. الثوار الحقيقيون هم الذين يساعدون الناس علي المشاركة في الانتخابات ويقومون لهم المعرفة التي تساعدهم علي حسن اختيار نواب الشعب. الثوار الحقيقيون هم الذين يؤمنون بأن الشعب هو صاحب الحق الوحيد في اختيار من ينوب عنه ويحقق مصالحه في الداخل وفي الخارج. الثوار الحقيقيون هم الذين يندمجون مع كل الطبقات وكل الفئات, ولا يقلبون بعضها علي بعض, ولا يستغلون تهميش البعض منهم في اعمال إجرامية يعاقب عليها القانون. أما الثوار المزيفون فهم الذين يقلبون الحقائق والموازين, ويكرهون أنفسهم ويكرهون وطنهم وشعبهم, هم الذين يعيثون فسادا في الأرض, ويشيعون الكراهية بين طبقات الأمة ويشوهون سمعة مؤسساتها الوطنية, هم الذين ينتشرون إعلاميا في تناغم يحسدون عليه للتشكيك في وطنية المصريين وتشويه اختياراتهم الحرة. هم الذين يبشرون بالصدام بين الناس والمؤسسات ويشيعون الضغينة الاجتماعية, وهم الذين يكذبون علنا كما يتنفسون, وهم الذين يستغلون حاجات البسطاء ليحولوهم الي مجرمين ومخربين وخارجين علي القانون والشرف والاخلاق. إنهم بذرة الفساد التي يجب اقتلاعها. وباختصار, هؤلاء جميعا يستحقون منا كل ازدراء وكل احتقار.