يكثر الحديث في الساحة السياسية المصرية عن الثورة المضادة، والثورة المضادة على صنفين: الصنف الأول: فلول الحزب الوطني، كما اصطلح على تسميتها، وفي الحقيقة المشكلة ليست في فلول الحزب الوطني، فقد رضي هؤلاء من الهزيمة بالإياب، وأكثرهم أغلق عليه بابه، ويبكي على خطيئته، وانصرفوا إلى حال سبيلهم، ومن ستراوده نفسه منهم بمعاودة التصدر للشأن العام، حتى ولو كان طاهر اليد، فإن مجرد انتمائه إلى الحزب الذي أفسد الحياة السياسية كفيل بإسقاطه. والصنف الثاني: - وهؤلاء لم يتم التنبه لهم حتى الآن فيما أعلم - وهم رجال جهاز أمن الدولة في كل مؤسسة أو هيئة أو حزب أو جماعة. رجال الجهاز بين الأساتذة والمفكرين والأدباء والفنانين والناشطين. من كان يتصل بهم الباشا من ضباط أمن الدولة بالتليفون، فيقول: حاضر يا باشا، وأمرك يا باشا. من كانوا يكتبون التقارير عن المؤسسات التي ينتمون إليها، والاجتماعات التي يحضرونها، في زملائهم وأقربائهم ومن يعرفون، أو يستضافوا في الجهاز فيحتسون المشروبات مع الضباط ويخبرونهم بما يعرفون، ويتلقون منهم الأوامر والتوجيهات. عيون جهاز أمن الدولة وآذانه وأدواته. هؤلاء ألقابهم في حياة الناس: أستاذ، ودكتور، وشيخ، ومفكر، وإعلامي، وصحفي، وألقابهم في أمن الدولة: مرشد أو مخبر، أو متفاهم، أو متعاون. هؤلاء الذين تعطل مصالح الناس وتمشي مصالحهم، ويضيق على الناس ويوسع عليهم، وتكمم أفواه الناس، ويقول هؤلاء ما يريدون فهم أبناء النظام وأدواته، ولا خوف عليهم من أمن الدولة ولا هم يحزنون. ولا شك في انتمائهم للجهاز ونظام الحكم وولائهم له. لم يسبق لأحدهم أن اعتقل إلا إذا احتاجوا جاسوسا على المعتقلين، أو رغبوا في أن يجعلوا منه رمزا بين الناس حتى يسمعوا له. هؤلاء الذين {إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، هؤلاء الذين يحتلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون للناس مسوك الضأن، قلوبهم كقلوب الذئاب، وألسنتهم أحلى من العسل، وأنفسهم أمر من الصبر، هؤلاء الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. لا تستبعد في الماضي أن تكون كثير من القضايا التي أثارها هؤلاء في الشأن العام ليست قضايا حقيقية، وإنما مسرحية يتلاعب فيها ضباط أمن الدولة بالمجتمع عن طريق رجاله، يتلاعب محركو العرائس بالدمى في مسرح العرائس، فيتلهون بها ويلهون الناس. لو نشرت ملفات أمن الدولة كانت ستخلص مصر من هؤلاء إلى الأبد، حين ينشر غسيلهم الأسود على الملأ، ولكن يبدو أنهم في مأمن، فكثير من الملفات حرق، وما لم يحرق منه سلم للسلطات، وبالتالي لا حرج عليه أن يتصدروا المشهد، ويكتبوا في الصحف، ويظهروا على الفضائيات، فهم من ثوار من الثوار، بل هم طليعة الثوار، ولا تستبعد أن يكون بعضهما مرشحا لمجلس الشعب أو الشورى أو حتى الرئاسة، أو ضيفا دائما على الفضائيات، أو رئيسا لحزب أو حركة أو ائتلاف. مشكلة هؤلاء أنهم باعوا أنفسهم من قبل - رغبا أو رهبا - فأصبحوا عبيدا، ثم أصاب أسيادهم ما أصابهم، فلم يحمدوا الله على نعمة الحرية، فقد استمرأوا الرق والعبودية، فهم على استعداد لبيع أنفسهم لمن يدفع. المشكلة الحقيقية يا سادة في هؤلاء لا في غيرهم، وهم أولى بالعزل، وأحق الحجر من غيرهم. وأنا أطالب المسؤولين ألا يقتصر ملف تطهير الدولة على الشرطة، وألا يقتصر العزل على أعضاء الحزب الوطني الرسميين، بل طابوره الخامس أولى. كما أطالب أن تكلف جهة ما بالاتصال بهؤلاء طالبة منهم لزوم بيوتهم، وترك العمل العام لغيرهم، وعدم الإدلاء بتصريحات، أو المشاركة في الفعاليات العامة، وإلا قدمت ملفات هؤلاء إلى النائب العام واحدا تلو الآخر حتى تستريح مصر من شرهم، أو على الأقل تنشر ملف المتعاونين مع جهاز أمن الدولة، والذين لم يكفهم أنهم أفسدوا الماضي، وإنما يريدون أن يفسدوا الحاضر والمستقبل.