تجري في تلك الاثناء أول انتخابات برلمانية في مصر ما بعد الثورة في إطار جدل وصخب شديدين بين شرعية الميدان وشرعية الصندوق الانتخابي. ولكل فريق وجهة نظره التي لا تخلو من وجاهة. ففريق يري أن شرعية الصندوق هي الشرعية الحقيقية, أيا كانت نتائجها علي أساس أن الشعب هو وحده من يقرر من يمثله, وأن أي شرعية أخري تحت مسمي شرعية الثورة أو الأزمة أو الميدان ما هي إلا محاولة من البعض للانقضاض علي شرعية الشعب وفرض الوصاية عليه تماما كما كان يفعل النظام المنصرم. والفريق الآخر يري أن للثورة شرعيتها, وأن طليعتها لها الحق الكامل في فرض رأيها علي أساس أنه لولا تضحيات تلك الطليعة الثورية لما كانت الانتخابات من الأساس, وبعض هذا الفريق يري تأجيلها حتي يتسني للأحزاب الجديدة الفرصة لشرح برامجها وأهدافها مع وجوب تنقية المناخ الانتخابي من بقايا النظام السابق قبل عقدها بهدف حماية الثورة ومكتسباتها من الانقضاض عليها لاحقا, والبعض الأخر يري ويتخوف ويتحسب لغلبة الإسلاميين المتوقعة كنتيجة طبيعية للوعي المغلوط بأن كل ما هو ديني فهو أخلاقي بالضرورة, مما يؤدي إلي ممارسة ديمقراطية صحيحة ونزيهة شكلا لا موضوعا, وأن العبرة في الديمقراطية هو ما قبل الصندوق لا ما بعده, ولا جدال في صحة هذا المنطق ولكن هذا يعني تأجيل الانتخابات إلي موعد غير منظور حتي يتم تثقيف المواطن المصري سياسيا بشكل معقول قبل عقد أي انتخابات, وهذا بطبيعة الحال غير ممكن لأنه يفتح الباب علي مصراعيه لاستمرار إدارة المجلس العسكري للبلاد إلي أمد غير معلوم, وهذا ما يرفضه الفريقان أيضا بشكل صارم. وبهذا فنحن إذن قد أصبحنا أمام جدلية لا فكاك منها ملخصها إما التسليم بالإرادة الشعبية التي سوف يحظي فيها الإسلاميون بالأغلبية, أو التسليم بإرادة الميدان وتشكيل مجلس مدني انتقالي يدير البلاد لفترة تسمح بتمكين الفكر المدني في الثقافة السياسية للشعب المصري, تقام بعدها الانتخابات بلا شبهة تدليس ديني أو اقتصادي فلولي إن جاز التعبير. وفي إطار جو مفعم بالتشكيك والتخوين بين كل الأطراف, تجري الانتخابات, وقد قرر كل فريق أن يؤجل سجاله مؤقتا إلي حين عقد الانتخابات, مع احتفاظ كل فريق بأوراقه الضاغطة قريبة إلي صدره, التحريريون بأوراق الميدان والإعلام الخاص الموالي, والإسلاميون بأوراق التأييد الشعبي المتوقع وقوه الحشد المجربة, والمجلس الأعلي كوسيط بين الفريقين بأوراق الشرعية الثورية والدستورية المؤقتة والفصل والموازنة بين الفريقين. وسوف تتغير الخريطة السياسية تماما بعد الانتخابات, مما قد يدفع الأطراف الي تغيير تكتيكاتها في السجال, وقد زاد من صعوبة السجال دخول طرف ثالث علي استحياء إلي الملعب السياسي, يحلو للبعض تسميته بالأغلبية الصامتة أو حزب الكنبة كما يسميه التحريريون وبدء ظهورهم علي الساحة في العباسية بشكل ينذر بمقدمات صناعة تيار ثالث قد يكون له دور سياسي بالوكالة في الفصل بين الفريقين وتقليص طموحات كل فريق في الاستئثار بالكعكة السياسية في مصر ما بعد الثورة. وأيا كان ما قد تسفر عنه الانتخابات, وأيا كان شكل السجال داخل البرلمان أو خارجه, فالحقيقة التي لا مراء فيها, هي أن الشعب قد أصبح وربما لأول مرة في تاريخه, سيد قراره.