لا أعرف لماذا ذكرتني أحداث ميدان التحرير التي بدات منذ أيام بمقوله أنشتاين لا يمكننا حل مشكلة باستخدام الافراد والعقلية نفسها التي أنشأتها, وهو منطق وضع حلولا لمشاكل ومعضلات تراكمت عبر عقود من الزمن بنفس العقلية وعبر نفس الأفراد الذين ساهموا, بشكل ما, في الوصول اليها. والعجيب أننا لم نصدق أنشتاين علي الرغم من ان مقولته طبقت فعليا في إطلاق ثورة25 يناير التي قام الشباب- وهم لاعبون جدد في الحياة السياسية- بإطلاقها شرارتها عبر الفيس بوك والتويتر, وهي وسائل جديدة علي العمل السياسي الدعوي, ولم يطلقها كبار رجال السياسية في الاحزاب الورقية ولا جماعات الاسلام السياسي ذات التاريخ العريق. فترة العشر شهور الاخيرة لم تتسم فقط بالعشوائية في الفكر والخطوات علي أرض الواقع بل ولم تتضح لها نتائج أو مخرجات محددة. بدأ من الحوار الوطني الذي كان المسئول عنه الدكتور عبد العزيز حجازي الفقيه الاقتصادي من مواليد عام1933, كان رئيس وزراء مصر عام1974 قبل ان يولد اكثر من65% من المصريين, قاد الحوار والمؤتمر بنفس عقلية الدكتور يحيي الجمل الفقيه الدستوري, أيضا من مواليد عام1930, وانتهي المؤتمر إلي لا شئ ليس لعدم معرفه المتحاورين بسبل الحوار ولكن لانه كان حوارا بدون هدف. محاكمة الرئيس المخلوع بدأت بعد مليونية خروجه عن صمته إعلاميا, الإنجازات منها حل الحزب الوطني والسماح للمصرين بالخارج بالانتخاب تمت بحكم محكمة, صندوق دعم الشهداء والمصابين لازال يبحث طريقه, وقانون العزل صدر أمس قبل ايام من الانتخاب, لم يتم أخذ خطوة واحدة نحو محاربة الفساد او وضع العدالة الاجتماعية في الميزان بينما الاخوة في تونس أتموا كل الخطوات, تبقي الثورة المصرية في المربع الاول!! نعم المجلس العسكري وقف بجانب الثورة- لأسباب مختلفة لكنه عاد ومارس سياسية ولي أمر المصريين, سياسية اللواء شفيق في برنامج يسري فودة الشهير وهو يسأل علاء الاسواني أنا حاربت وقتلت واتقتلت من اجل مصر, وانت كنت بتعمل إيه؟, وكأنه فعل هذا فقط من اجل أن نصنع له تمثالا وأن ننحني امامه كلما تحدث, اذكره بأن كل مهندس وطبيب ومدرس وعامل بناء وسائق قطار وضابط شرطة وساعي بريد يقوم بعمله ودوره يوميا كي نعيش في هذا الدولة ولم يحتكروا البطولة والعظمة. كلنا مصريون ونحب بلدنا ونموت عشقا في ترابها ونموت أيضا من اجلها. مشكلة السلوك السياسي للمجلس العسكري انه يظهرهم وكأنهم الوحيدون الخائفون علي مصر والوحيدون أصحاب الرؤية البعيدة الذين يعرفون اكثر ولأن المصريين جهلة ولأن الشباب عديمو الخبرة ولأن الأحزاب السياسية مزيفه, فقد قرر هؤلاء الأعضاء ان يقرروا بالنيابة عنا ويضعوا الخطط التي تناسبنا. بالطبع احتاج المجلس لبعض الشخصيات التي كانت همزة الوصل مع المجتمع, لكنه أختار أيضا هذه الشخصيات بنفس عقلية نظام مبارك, مركزا علي فكرة أن الفقهاء يعرفون اكثر, وبعد الفقيه الاقتصادي والفقيه الدستوري, والفقيه الأمني, جاء بالفقيه الاسلامي طارق البشري ليضع بنودا قلبت الطاولة علي الثورة ومفاهيمها بدءا من أستفتاء تعديل الدستور ثم وثيقة الدستور وانتهاء بشرط الترشح لرئاسة الجمهورية ألا يتزوج المصري الراغب في ترشيح نفسه من أجنبيه!! الفقية الاسلامي فتح الباب للإسلاميين ليخرجوا ويضيعوا ستة شهور في الاجابة عن السؤال الخاص بالفرق بين الدولة المدنية والدينية. الثورة قامت بعد أن كسر الشباب حاجز الخوف وتخلص من هذه العقلية الفوقية, العالم تغير في العقد الاخير كما لم يتغير في الالفيتين الاولي والثانية, ووصلنا لدرجة ان المعرفة الإنسانية تتضاعف كل18 شهرا, ففي حين استغرق الإعلام الإذاعي40 سنة للوصول إلي50 مليون متلق, احتاج الفيس إلي9 أشهر فقط ليصل إلي100 مليون مشترك. فهل توقفنا وفكرنا بهدوء في وتيرة هذا التسارع والتفتنا إلي من يقوم بإنتاجها, وسألنا انفسنا: هل النخب الحالية لدينا ساهمت أو تساهم فعليا في تطور مجتمعنا, هل هناك طريق آخر غير ضياع الوقت والجهد في كلام الفقهاء, والبعد عن السؤال الأساسي: هل مصر الآن تحتاج الي تضييع كل هذا الوقت في انتظار إطلاق برنامج بناء وطني؟ أستطيع أن اجزم أن الثورة قامت لاننا شعرنا ان بلدنا وصلت الي مرحلة الدولة الفاشلة, وأن اوضاعنا كشعب تدهورت إلي أسفل الدرجات في العالم, وأن الوضع النفسي والاقتصادي للمصريين لم يعد يحتمل جلسات حوار بين المجلس ومجموعه من الشيوخ الذين اجتمع بأكثرهم عمر سليمان قبل تنحي الرئيس. أنا لا استهين بمجهود المجلس, ولكني اذكر أولي الألباب أن هذا العصر اختلف جذريا عما سبقه, وبات عصر الخطط التنفيذية ولم يعد عصر التنظير والنوايا الطيبة, عصر يسيطر عليه الشباب وليس عصر الحكماء, عصر النخب التنفيذية المحترفة وليس عصر قدماء الموظفين, رسالتي للمجلس العسكري: الرجاء التوقف عن سياسة الدوران في المكان ومحاولة النظر للمستقبل بالنظر خارج الصندوق, واستبدال الحكماء بالمديرين والتنفيذيين الوطنيون, فإدارة الدول الآن لم تعد تحتاج للقائد الملهم بقدر كونها إدارة مقدرات وإمكانات شعوب وتحقيق أهداف وتطلعات معنوية ومادية يمكن قياسها ومتابعه تحقيقها في إطار الرقابة والمحاسبة, ومصر تمتلك مخزونا رهيبا من الشباب المؤهل, تخرج من ارقي الجامعات وارتقي قيادة مؤسسات دولية ومحلية, استفيدوا منهم في إطلاق ثورة علي ثقافة التبرير والكلام والنظرة الفوقية, ثورة لإدارة مصر في أسرع وقت, وإلا فأنتظرو أن تقوم ثورة جديدة اكثر عنفا وراديكالية من الأولي!