لم يعد هناك مفر, فالحكومة السورية مطالبة بالرد فورا علي خطة العمل التي طرحتها الجامعة العربية كمقدمة لتطبيق باقي بنود المبادرة العربية, وتقضي خطة العمل أولا بوقف العنف وسحب الجيش من المدن وإطلاق سراح المعتقلين, الخطة علي هذا النحو هي مجرد بداية لحوار شاق تحت رعاية عربية مباشرة وخطوة لابد منها نحو عملية معقدة يفترض ان تنتهي بإصلاحات حقيقية وإحداث انفراجة في الأزمة السورية. غير ان الأسلوب الذي تتعاطي به حكومة الرئيس الأسد مع المبادرة العربية لا يوفر اسسا معقولة للتفاؤل بشأن المستقبل القريب, بل العكس هو الأقرب. ولعل تحذير دمشق من عاصفة كبيرة تتجمع في الأفق والذي أطلقه رئيس الوزراء القطري ورئيس اللجنة الوزارية للمبادرة العربية يوم الأحد الماضي يعكس البديل الأسوأ المحتمل في حالة تقاعس الرئيس الأسد عن اتخاذ قرارات جوهرية وسريعة يراها السوريون بعيونهم المجردة وتعطيهم الأمان المفقود وتجعلهم يشعرون بقيمة المبادرة العربية الهادفة إلي حماية سوريا والسوريين من مصير مجهول. والعاصفة الكبيرة كتعبير مجازي يحمل الكثير من المعاني أقربها أن تستقر في الأذهان ان النظام السوري لا يريد القيام بأي إصلاحات ولا يهتم بمقابلة مطالب الشعب في منتصف الطريق, وهو ما سيترتب عليه إعلان فشل الجامعة العربية في أن تحافظ علي سوريا بعيدة عن التدخلات الغربية والأمريكية, والفشل ايضا في تقديم المساعدة الضرورية لحماية السوريين أنفسهم من آلة القتل التي تحصد العشرات يوميا بلا انقطاع ووفقا للسوابق الدولية فإن فشل المنظمة الإقليمية في احتواء أي ازمة في النطاق الإقليمي يعني فتح الباب مشرعا امام عمل دولي إما تحت مظلة الأممالمتحدة أو بقيادة مجموعة من الدول الكبري مستظلة بذلك بمفاهيم الحماية الدولية أو بهما معا والحالة الليبية خير مثال. صحيح هنا أن الرئيس الأسد استبق التحذير العربي في مقابلة صحفية مع الدايلي تليجراف البريطانية, حيث وجه بدوره تحذيرا قويا للدول الغربية التي قد تفكر في التدخل العسكري في الشأن السوري, مستندا إلي الموقع الاستراتيجي الذي تحتله بلاده وتماسها الجغرافي مع إسرائيل وعلاقاتها القوية مع إيران وحزب الله.. وفي هذا التحذير يلمح المرء رسالة بأن سوريا لن تقف ساكنة وأنها ستفتح الباب أمام أكثر من حرب إقليمية وربما عالمية ستطيح بمصالح غربية أساسية في المنطقة مستندة في ذلك إلي المقولة الشهيرة علي وعلي أعدائي التي تلخص يعرف بالخيار شمشون. مثل هذه التحذيرات لا تخفي المأزق السوري, إذ يدرك النظام ان قبوله الحوار مع المعارضة بكل أطيافها في الداخل والخارج يعني تشكيكا في شرعيته أو هو تنازل مسبق لا يجوز حدوثة ولكنه يدرك ايضا ان عدم التجاوب مع الجامعة العربية سيزيد من عزلته العربية والدولية وسيقدم حجة للقوي الغربية للتدخل ويقدم حجة أيضا لكل من روسيا والصين للتنصل من الوقوف إلي جانب دمشق كما حدث في مجلس الأمن. كان الموقف السوري الذي ابلغ للوفد الوزاري العربي بشأن تطبيق المبادرة العربية استند اساسا إلي افشال المبادرة ببطء وإغلاق الباب امام مشاركة المعارضة الخارجية التي تنتظم تحت مظلة المجلس الوطني الانتقالي السوري بقيادة برهان غليون, ومن ثم اكتساب المزيد من الوقت لاستكمال ما يوصف حسب تعبيرات الرئيس بشار الأسد بالمهمة الأمنية للجيش في القضاء علي العصابات المسلحة, ومن هنا كان التحفظ السوري علي أن تكون الجامعة العربية بالقاهرة مقرا للحوار مع فصائل المعارضة, وتحفظ آخر علي مشاركة معارضة الخارج, ومطالبا بأن يكون الحوار في دمشق مع معارضة الداخل ومتابعة عربية عن بعد وهو ما يجهض أسس المبادرة العربية أصلا ويحولها إلي شاهد زور. مأزق المعارضة السورية يمثل الوجه الأخر للعملة, فبالرغم من التضحيات المستمرة ونزيف الدم اليومي لخيرة أبناء الوطن فإن من الواضح ان هناك انقساما مجتمعيا بشأن النظان السوري, إذ تظل دمشق العاصمة مؤيدة النظام وساكنة تماما مقارنة بما يجري في الريف والمدن الكبري البعيدة عن العاصمة كحماة واللاذقية ودرعا وغيرها وفي السياق ذاته تظهر أولويتان مختلفتان للمعارضة السورية, فشق الداخل يدعو إلي الحوار ويرفض أي تدخل خارجي وليس له موقف واضح من المبادرة العربية, أما شق الخارج فلديه شكوك كثيرة بشأن المبادرة العربية ويري ان قبولها بدون ضمانات قوية قد يجهض الحالة الثورية التي تعيشها سوريا, ويطالب بحماية دولية للشعب السوري, تبدأ بنشر مراقبين دوليين للحكم علي طبيعة الأوضاع في الداخل, وبناء علي تقرير مفصل وموثق يقدم لمجلس الأمن يمكن أخذ خطوة تالية حسب تطورات الأوضاع الميدانية غير أن نشر هؤلاء يتطلب موافقة الحكومة والمعارضة معا وتعاونا من كليهما وهما شرطان غير موجودين. ولكي يتحقق ذلك فهناك خطوة مهمة هي آن يعود الملف السوري مرة أخري إلي مجلس الأمن الدولي وهنا يتجسد مأزق الجامعة العربية, التي نعرف جميعا أن قدرتها في الضغط علي أحد الأعضاء مرهونة بمدي حدوث توافق عربي عام, ومن ثم يصبح من العسير التفكير في قرار بتجميد عضوية سوريا عقابا لها علي إجهاض المبادرة العربية وقد تحدث محاولات ومناورات ولكن النتيجة واحدة والمؤكد أن فشل المبادرة العربية سيكون بمثابة البوابة الملكية للعبور نحو تدويل صارم تتحكم فيه القوي الكبري ويصبح فيه العرب جميعا مجرد متفرجين.