تتصارع الهواجس والأفكار المتناقضة في الانقضاض عليه, تقتنص فرصة وقوفه وحيدا تحت قسوة الشمس الحارقة وهو يتأمل نخيلا زرعه أبوه في فتوته. بكاء النخيل يتناهي إلي اذنيه فيمزق الصمت, يتمايل جريد النخيل وكأنه يتشوق إلي رؤية أبيه الذي مدده المرض علي الفراش تنهمر دموعه خشية أن يرحل أبوه ويتركه وحيدا تفترسه الهموم عانيت آلام الحر في الصيف وقشعريرة البرد في زمهرير الشتاء وانت تزرع النخيل وترويه بعرقك تتمزق اذناي من شدة انينك ويحاربني النوم في انصاف الليالي, لن تهدأ إلا قبيل الفجر بقليل تؤدي الصلاة في المسجد القديم بعدها تعود إلي الدار لتحتسي كوبا من الشاي وقطعة خبز, لن تعبأ بسخرية من حولك من الناس, قاومت المرض بكل ما تملك من قوة حتي ضعف جسمك فخذلك هاويا علي الفراش. يحاول طائر أزرق أن ينتشله من آلامه فجأة انطلق مودعا جريدة من جريد النخل كان واقفا عليها تهزه رهبة قادمة من مجهول, فأغمض عينيه متمنيا النسيان فيري أباه يبتسم في غبطة وهو ينظر لابنه الممتطي حصانا أبيض والرادف وراءه عروسه علي الحصان, يستيقظ علي انغام الفتاة وهي تحييه, عندما شاهدها يتعلق بصره بها يسير وراءها إلي النهر, ويقاوم زلزالا يرج كيانه كثيرا ما تمني ان يلتقي بها ويكشف لها عن شعوره النابض نحوها. يتوقف في مواجهتها معطيا ظهره لاشجار الصفصاف تستقبل أشعة شمس الاصيل بفرح يدفعها للتمايل مع نسيم الهواء الجميل تمتلئ عيناه بماء العشق قال لها: أحبك أثقل من العالم فارتبكت الفتاة: دائما أتشوق إلي رؤية وجهك الأسمر جذبني حبك إلي عشق أغاني العندليب الأسمر, وعندما رحل منذ شهرين بكيت عليه كثيرا وفقدت شهيتي للطعام وارتديت ثوبي الأسود من الآن حين تراني انزل النهر وحيدة فاعرف تماما أنني لن استطيع أن يمر علي اليوم دون أن أراك. تكشف له عن شعرها الأسود الطويل تطل من وجهها الخمري عينان ساحرتان تعزفان انغاما علي أوتار العشق تهتز شفاهها فتشتهيها نفسه, يحلق خلفها في السماء يحاول أن يلبي رغبته فيقرب شفتيه من شفتيها تهرب منه وتعود إليه يعيده صوتها إلي الأرض: سأملأ جرتي من النهر وأعود إلي البيت حتي لايشك أبي وأمي في أمري. صعدت إلي الطريق المؤدي إلي بيتها وقطرات الماء تبلل ثوبها الأخضر الضيق الكاشف عن تضاريس جسمها الجميل, اقتربت الشمس من الأفول فأخذ الأسي يفرش ثوبه الأسود علي أشجار الصفصاف. ابتعدت عنه وهو ضاغط علي قلبه خوفا علي طيرانه ولحاقه بها, جذبته عصافير عائدة إلي أعشاشها المعلقة بفروع الأشجار علي جانبي الطريق يصغي إلي ألحانها الرائعة يري الغبطة تعم كل المخلوقات في أثناء عودته إلي الدار أنها تشاركه في فرحته بلقاء محبوبته. يدنو من الدار, يلاحظ الأهل وهم يدخلون الدار, انقبض قلبه علي أبيه الممدد في الفراش أسرع في مشيته لن يتوقف إلا بالقرب من رأس أبيه, طبع قبلتين علي خدي أبيه, نظر الأب إلي ابنه نظرات الحنان قائلا: انتظرتك طويلا وخفت ان تتأخر كثيرا خارج البيت قلبه يتمزق من شدة الحزن عليه قائلا: جئت يا أبي أتريد مني شيئا؟ قل لي يا أبي: أحلامك عندي أوامر وواجبات لابد من القيام بها. لم تبق لي الدنيا أحلاما إلا أنت شرد ذهن الأب وعم الصمت, قبل أن ينطق بالشهادتين ويسكت إلي الأبد قال: ازرع النخيل لأحفادي ولاتفرط في من تعشق. محمود خضري يس