بصبر نافد خضت محاولة للحفاظ علي انسجام ملامح وجهي. في المرآة أكملت ارتداء ملابسي بين دبيب الخطر الذي لا يفصلني عنه سوي خطوات. ربما يقف بجواري الآن ويستعد للانقضاض. كانت الجريدة مطوية وملقاة علي الكرسي أمامي. فتحتها مرة أخري وتجولت متباطئا بين السطور. وصلت الي صفحة النهاية, ورسمت دائرة بالقلم الأحمر حول برج العذراء. لم أسقط من قبل فريسة لما تقوله الأبراج ولو لمجرد المتعة. كنت أعرف أن قليلا من الفلكييون تنفذوا بالفعل في ذلك العلم, أما ما يكتب في الصحف فهو لمجرد إشباع رغبة فضولية متعجلة. تركت الدائرة الحمراء حول عبارة التنبؤ, رسالة مختصرة للكابوس الذي أعيش داخله. متسامحا مسدت جدران حجرتي التي احتوتني كرحم قاس وبارد. علي بعض مساميرها صوري في براويز: طفلا ومراهقا معاندا, وشابا يبحث عن يقين.. أحسست بدفء مفقود. المطر في الخارة يدب بعنف علي الأسفلت كطفل وحيد وأنا طفل صغير كنت أحمله في يدي كلؤلؤة صغيرة, سرعان ماكان يتسرب من فواصل أصابعي الي الارض المتعطشة لقبلاته. لو ان المطر يحتويني هذه الايام لأصير شفافا, وعصيا علي الخوف من نبوءة يطاردني شرها كل حين.. لن أكون بعدها ولفترة طويلة قادمة علي الاقل بانتظار عينين كبيرتين فارغتين, وأصابع طويلة محترفة تغوص في مستنقعات روحي وتقتلعها من جسدي. المقاول في الموقع علي أطراف القرية هذا الصباح كان شغوفا حينما أخبرته بما قيل لي. عززت ذلك بأنني لست من قراء الجرائد. بالتحديد لم أعد أضع ميزانية لتلك الأمور التي انتهي نفعها تحت ضغط الحاجة. اشتريت جريدة(.......) وتأكدت. ابتسم, وقال لي وفي عينيه ابتسامة ساخرة: هناك عشرات الجرائد, لماذا لاتشتريها ايضا؟!قلت: هذه من ضمن جرائد قليلة تأتي إلينا هنا, كما أن هناك تأكيدات أخري. كنت أخفي اندهاشي أيضا مما أخبره به, هذا الذي لم تشفع شهادتي الجامعية لديه سوي في تشغيلي مراقبا للعمال, والعمل معهم أحيانا في حرفة النقاشة التي أتقنها, وكذلك تكليفي بحسابات العمال وبالمخالصات. لقد حملني من العمل فوق ما أطيق وكأنه انتقام لاتمييز كما يخبرني حين اتشكي من ثقل المسئولية. إنني أعيش كابوسا متصلا لا فكاك من أنيابه الجهنمية.. فكرت أن أتبع خطته لكن النبوءات الأخري تراصت فوق بعضها مثل حصن عتيق.. أراح المقاول ظهره للوراء.. أخذ يزفر في غيظ دخان الشيشة الذي انتشر فوق وجهي كبصقه كبيرة, وأصر بالرغم من استغرابه الشديد للمسافة التي محوتها بيني وبينه أنني لابد ان احمل دوسيه المخالصات للذهاب الي مبني الشركة لإنهاء المخالصات والعودة بالشيكات. لاحقتني كلماته مثل سهام مسمومة, آمرا إياي بالسرعة حتي أعود, والف الموقع لاراقب العمال. جريت الي الطريق لأهرب من عيونه, والعار من كلماتي التي تسرعت وألقيتها يملأ روحي بالضغينة. لماذا جئت اليوم: هل كان المقاول سيوافق علي منحي إجازة؟ أم جئت لأقبض راتبي الذي منعه حتي أعود؟ لم لا أجلس في حجرتي بين أهلي؟ الموت قد يجيء في الفراش.. ولو أخبرتهم في الصباح قبل ان اخرج بما أخبرت به المقاول الآن قد يعدونني أيضا مجنونا.. قد أري بعض الحنان في عيونهم لكنه مؤجل حتي انتصر علي هواجسي السيئة وأكمل عملا واحدا حتي النهاية بدلا من التجول بين عدة أعمال دون استمرار في واحد منها. لقد فقدت لدي المقاول كل تقدير. ربما تصير نادرة في أوقات راحة العمال. قلت لنفسي مواسيا: لأن تتحقق محاذير النبوءة أفضل لي من ان أصير مصدرالسخرية الجميع. أعطيت للموقع وللعمال في أشغالهم نظرة ربما تكون الأخيرة, وسكت عن حق أحسبه لي, أنا ماتنبأ لي أحد بخير وحدث.. لكن من رآني ممن أعرفهم, ورفع بصره الي بعيد ونحن نجلس في المنزل, أو نقتل الوقت علي احد الطرق الزراعية التي تحف بالقرية, ثم صب كلماته التي حلم بها أو تنبأ لي بها حدثت. كل من رآني أيضا أرزح ذات حلم تحت هم ما أحسسته. ركبت سيارة البيجو في محاولة لتحدي تلك الأفواه والعيون التي أشعر أمامها أنني صفحة مفرودة مستباحة. جاءت زحمة الركاب فدفعني أحدهم للكرسي الخلفي الذي أرهبه. تشاغلت بالمباني الهائلة, وبعد قليل بالخضرة وبأعمدة الإنارة المصطفة علي جانب الطريق.. بجوار السائق كان الرجل الذي دفعني يحادث سيدة هادئة..لها بشرة بيضاء جميلة وعينان واسعتان عسليتان, وشعر بني منسدل علي كتفيها المضمومين وهو يهفهف كالموج تحت ضربات الريح.. عجبت من رقتها وقبحه وكيف انهما انسجما في حديث طويل.. فيما يبدو أنهما يتعارفان للمرة الأولي, وهذا غريب ان ينطلقا معا في الكلام هكذا.. أطلقت ضحكاتها لتعليقاته التي بللت جوف العربة اليابس بالخوف.. كان يثرثر ويضحك أيضا غير عابئ بنا, والسائق يلضم خيط الكلام حين يتوقف الرجل, والهواء يزمجر باردا في الخارج, والسيارات تنزلق فوق بقع المطر الخفيف مسرعة. عاودني الحزن مرة اخري, فأنا لم أودع احدا من اصدقائي او اقاربي في التليفون, او اترك رسالة مستفيضة في حجرتي سوي عبارة برج العذراء الغامضة لأضمنها كلاما حلا لي ان افعله ولم افعله, وما تمنيته ولم تسعفني الحياة حين كنت ارمح كالسهم المنطلق في حيواتهم الرائعة. ذلك العجوز المتصابي عريض الكتفين تكاد بذلته نصف الكم, الكحلية العتيقة ان تتفزر من جسده الضخم. يلتفت ويضع إطار وجهي الصامت بعينيه الغائرتين كمداخل الجحور. جاءت الي كل القرائن التي تثبت ان اليوم هو المقصود كما حذرني احمد وحلمي صديقاي, وكما ألمح صاحب البقاله جارنا الشاب والذي كنت أشعر نحوه بمودة. طلب مني صورة شخصية قريبا لغير ماسبب, وطلب ان اكتب له كلمة للذكري. إصراره كان جديدا, وحلم رأيته امس: كنت ممددا بجوار قبر العائلة أحادثهم ويحادثونني.القفز من السيارة وهي ترمح بأقصي سرعة بما يحمله من موت محتمل, أو عاهة ربما تحدث يلوح لي فرصة أخيرة لكنني عاجز لأن جاري يضغط بجسده السمين جانبي, ولأن زجاج الكرسي الأخير قطعة واحدة مغلقة باستمرار, وقواي شلها الحصار والعجز. وضعت عيناي مرة اخري فوق الخضرة المريحة وطفرت دموعي, وتغبشت الصور فلم أر إلا وجه الرجل يتمدد حتي يحتل الصورة ويبتلع كل عناصرها. يقولون ان الانسان ساعة الاحتضار يري العالم شيئا واحدا بلا زمن او مسافات, وأنا احس حدة اصابعه علي جلدي الذي ينز بحرا من عرق الرعب بالرغم من برودة الهواء في الخارج.. بينما يثرثرون دون ان يعطي كل واحد لنفسه فرصة لمضغ كلام الاخرين هلت من التقاطع: سيارة ضخمة دون انذار. صرخت محذرا.. لف السائق بسرعة, وانحدر بينما يسحب نفسه للوراء. شعرت بصدمة وألم عنيف برجرجة جسدي بين زجاج السيارة, وجار الركوب الذي ينضغط بعنف. صفعني ماء كثير, طميه اختلط بدماء ودموع مالحة, وصراخ وتشنج. كنت اجدف بقوة كي اخرج قبل ان يفتح النيل فمه الجائع ويبتلع السيارة بمن فيها. توالت وجوه أعرفها تشدني الي القاع. استطاع العجوز فتي الجسد ان يكسر زجاج السيارة بحديدة في يده. أغلقت فمي وعيني حتي لاتؤذيني شظايا الزجاج المبلل. يده جافة وسميكة كلحاء شجرة معمرة. امسكني من رأسي وسحبني الي الخارج مثل جنين لحطة الولادة. بوهن حررت قدمي التي تمزق بنطالها وانجرحت. لما خرجت ارتميت في حضنه المبلل القاسي. عصرتني يداه فتراجعت, وسقط فوق ارض معشبة في إعياء, غارقا في دماء طازجة. الغريب انه لم يطلب حتي مساعدتي في انتشال باقي الأجساد التي كانت تبقبق تحت الماء وتعافر للصعود. كان ينظر في كل مرة الي ببهجة من أدي عملا بطوليا. بعد قليل اتي اناس ليستطلعوا ماحدث. وخزتني أشواك الأعشاب اليابسة علي منحدر النهر. تجمد جسدي من الرعب وقلت لنفسي: كيف تكون اعشاب الضفاف يابسة؟. لمت نفسي قليلا لأنني لم أصر علي الاحتماء بحجرتي, لكن هل هذا يفيد في لحظة البحث عن خيط يعيد الي التوازن. هل كان المقصود انني سأري موت الاخرين قريبا هذه المرة كأنما هو لي, او هو لي من حيث لا أدري! لماذا تبدو اعشاب الضفاف المغمورة جذورها في الماء يابسة؟! والذين يشقون الفضاء باتجاهنا يتجمدون لحظة قبل ان يمدوا الينا يد المساعدة!كان السائق قد فقد القدرة علي الحركة لما اخرجوه, وكانت السماء الرمادية الشفافة في ذلك الوقت هي ارض عيني المحببة.. احسست بعد قليل بطراوة العشب واخضراره العجيب بعد ان رويته بماء جسدي. فكري عمر الدقهلية