الحقيقة التي لا تقبل الشك, بل هي اليقين ذاته, أن مولد رسول الله, صلي الله عليه وسلم, كان نقطة فارقة في تاريخ البشرية, فاصلة بين ما كان, وما أراد الله أن يكون هو الثابت الذي مثل الكلمة النهائية لعلاقة الإنسان برسالات السماء, لقد كان مولده, صلي الله عليه وسلم, رسالة إلي الدنيا بأن العمل والسلوك هما الهدف والغاية, وأن العقل البشري الذي منحه الله للإنسان لا بد أن يعمل باستنارة وبلا هوي, وغايته الوصول بالكون إلي الأمن والسلام والاستقرار, وبناء حياة تليق بالمخلوق الذي كرمه الله, بما أعطاه من ملكة العقل والفكر, مقترنا بعمل وسلوك يتناغم مع ثوابت لا يجوز الاقتراب منها. وأحسب أن احتفال مصر بذكري المولد النبوي الشريف, الذي شهده وتحدث فيه الرئيس عبد الفتاح السيسي, وفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر, ووزير الأوقاف, يمثل لحظة فارقة في تاريخ مصر, نتجاوز فيها التنظير والأقوال والجدال, إلي مرحلة نترجم فيها معاني الرسالة السامية التي جاء بها رسول الإنسانية- بالكلمة الخاتمة لرسالات السماء- إلي سلوك عملي, وواقع ملموس في حياتنا ودنيانا. وقد جاءت كلمة الرئيس السيسي للأمة شديدة الوضوح بأن الفهم الحقيقي والصحيح للإسلام يكشف حرص رسالة الإسلام علي إرساء مبادئ وقواعد التعايش السلمي بين البشر, وحق الناس جميعا في الحياة الكريمة, وأن التنوع الذي خلقنا الله عليه له حكمة آن الأوان أن ندركها تعارفا, وتسامحا, وتكاملا, وقبولا للآخر.. ولن يتحقق ذلك إلا بالفهم الصحيح لجوهر الإسلام استنادا إلي مصدريه; القرآن والسنة, بلا إساءة في التفسير, أو خطأ في الفهم, أو جنوح في التأويل, أو تطرف في القول يقود إلي انحراف في السلوك والعمل. والمتأمل المدقق لإشارات الرئيس الواضحة في كلمته يدرك بلا عناء, أنها رسالة ودعوة لأولي الفكر, وذوي البصيرة بأن يواصلوا بسعي حثيث, وجهد مخلص, تقديم قراءة صحيحة لتراثنا الفكري, قراءة واقعية مستنيرة, تنظر فيما لدينا من تراث لا مثيل له في ثرائه العقلي والفكري, لنستلهم منه ما يصلح زماننا, ويتلاءم مع مستجدات الحياة العصرية ومتطلباتها. إن الاستقراء الحقيقي البريء من أي هوي أو غرض لسيرة الرسول عظيم القدر سيدنا محمد, يكشف عن تقصيرنا الواضح في الفهم والإدراك لعظمة رسالته, واستسلام البعض لمقولات وأفكار تجاوزها الزمن, فأدخلت البشرية في صدامات وخلافات لا معني ولا مبرر لها, وما حدث ذلك إلا في الأحوال التي غفلنا فيها عن جوهر دعوة الرسول ورسالته, ولذلك آن الأوان كما قال الرئيس أن يقوم العلماء ذوو البصيرة, بدورهم لإنقاذ العقول من حيرتها, وتنبيه النفوس من غفلتها, لننشر علي الدنيا الحقيقة السمحة للإسلام, ونغرس عمليا وسلوكيا القيم الإنسانية السامية في القلوب والأذهان, لننبذ العنف والكراهية والبغضاء, فننعم, والعالم معنا, بالأمن والاستقرار والسلام الذي هو غاية الإسلام. ولم تكن كلمة شيخ الأزهر كذلك إلا رسالة تشابكت بما طرحه مع ما تعانيه الأمة من افتعال لأزمات وخلافات, هي أبعد ما تكون عن فكر العقلاء المخلصين, حين أشار إلي الدعوات التي تنطلق من حين إلي آخر تشكيكا في قيمة السنة النبوية, والطعن في رواتها من الصحابة والتابعين, والمطالبة باستبعادها جملة وتفصيلا من دائرة التشريع والأحكام.. وتلك مغالطات لا تخفي علي أحد, ولا يجهل أحد غاية مروجيها, والثابت في عقيدتنا.. وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.. ونحن ندرك قول رسولنا: أنتم أعلم بشئون دنياكم.. ونفهم جيدا أن هناك أحكاما نزلت في سياق محدد, لظرف محدد, لا يجوز تعميمه أو القياس عليه, وتلك مهمة العلماء وأهل الفكر والاختصاص. ولعل إشارة وزير الأوقاف إلي الجهد الذي يبذل وأحسبه في حاجة لمزيد من التطوير لتجديد الخطاب الديني رسالة في السياق ذاته. تبقي الحقيقة التي بدأت الحديث بها.. لقد كان مولد الرسول نقطة فارقة في تاريخ البشرية, وأحسب أن احتفال مصر هذا العام بذكري مولده صلي الله عليه وسلم, ستكون لحظة فارقة في تاريخنا, وحياتنا, لنبني مصر الجديدة التي نريدها, ويستحقها شعبنا.