إحساس رائع بالشموخ والعظمة يسيطر عليك حين تزور مركز الترميم بالمتحف المصري الكبير ليس فقط لدوره التاريخي في ترميم الآثار والمحافظة عليها للإنسانية وتجهيزها للعرض في المتحف في أفضل صورة, وهي اللحظة التي ينتظرها بشغف عشاق الحضارة المصرية في العالم كله, لكن أيضا لأن ذلك إنما يتم علي أيدي كوادر من الشباب المصري أصبحوا خبراء عالميين, تتم استضافتهم في أكبر المؤتمرات الدولية وتنشر أبحاثهم ودراساتهم في أهم الدوائر المتخصصة والاستعانة بخبراتهم ومهاراتهم النادرة في هذا المجال, بعد أن انطلقوا من خلال أكبر مركز للترميم في العالم من حيث المساحة والإمكانات وعدد العاملين فيه, والمقرر له أن يصبح أهم مركز للترميم في العالم. وفي مركز الترميم وهو أول مشروع تم افتتاحه بالمتحف المصري الكبير عام2010 علي مساحة23 ألف متر مربع كما يوضح أسامة أبو الخير, مدير مركز الترميم أن هناك أكثر من17 معملا, حيث يتخصص كل معمل في مادة محددة, فعلي سبيل المثال هناك معمل خاص بالمواد العضوية, ومعمل آخر في المواد غير العضوية, ومعمل خاص بالبقايا الآدمية, ومعمل خاص بالأحجار, والآثار الثقيلة, ومعمل متخصص في الأخشاب, بالإضافة إلي معامل متخصصة في الفحوص والتحاليل, وملحق بالمركز رصيفين للشحن واستقبال الآثار واستلام المواد والخامات, ومنطقة لتعقيم الآثار بالغازات الخاملة. ولأن أي أثر يدخل المتحف في المركز لابد أن تتم له عملية تسجيل وتوثيق فإن المركز يضم قسما خاصا بقاعدة بيانات للآثار, ذلك أن أي أثر يدخل المتحف لابد أن يجري حوله بحث علمي حول حالته لحظة وصوله للمتحف, ويتضمن تصويرا له, وخطة العمل التي سيتم علي أساسها ترميمه, ثم تستمر مراحل التوثيق أثناء ترميم الأثر عن المواد والخطوات التي تمت أثناء ذلك, الأمر الذي يساعد مستقبليا علي إجراء أي تعديل في ترميمه إذا ما توصل العلم إلي مواد جديدة أو طرق ترميم أحدث. الإبقاء علي القيمة الأثرية أولا ويعتمد الترميم بالكامل علي المواد الطبيعية الاسترجاعية التي لا تؤثر بالسلب علي الأثر بأي حال من الأحوال, كما أنه يمكن إزالتها بسهولة شديدة, فهي لا تثبت عليه, وذلك حتي فيما يتعلق بالمواد المستخدمة في الآثار الثقيلة المصنوعة من الأحجار, حيث يمكن إزالة هذه المواد بسهولة عند الحاجة إلي ذلك, كما تقوم فلسفة الترميم في المركز علي منع الاستكمال أو التعديل بأي صورة من الصور بما في ذلك منع تغيير الألوان, أو استكمال حتي ولو جزءا ناقصا أو مفقودا أو مكسورا, فيترك الأثر كما هو. وفي حالة واحدة فقط يجري استكمال الأثر, وهو بهدف توفير الدعم له, أي في حالة ما إذا كان هناك خطر ما يهدد الأثر بالتدمير أو التلف أو الانهيار فإنه يتم استكماله بجزء مصنوع من المواد الطبيعية, ولا ضرر منها علي الأثر وفي أقل الحدود الممكنة. كما أن هذا الجزء الذي تتم إضافته يكون شديد الوضوح للمتلقي بالعين المجردة بحيث يعرف بسهولة أنه جزء مضاف إلي الأثر, وليس جزءا أصيلا منه, وذلك كله بهدف الحفاظ علي هوية الأثر, وطبيعته, والإبقاء علي قيمته الأثرية, بحيث من يري الأثر يكون علي يقين بأنه بالفعل كما هو منذ عهد المصريين القدماء, وليس له مستكملات حديثة, وأن كل الدقة في التفاصيل التي يتمتع بها إنما هي جزء أصيل منه في أفضل حال. صرح تعليمي أثناء الجولة بالمركز أخذتنا كلمات سارا حسن أبو مسلم منسقة العلاقات الدولية بالمتحف, أن المركز قد أنشئ بهدف رئيسي وهو ترميم قطع الآثار التي تدخل المتحف سواء لتجهيزها للعرض الدائم, أو للقطع التي ستوضع في المخازن لتضمها فيما بعد قاعات المعارض المتغيرة, بحيث تتم المحافظة علي آثارنا العظيمة وتقديمها في أفضل حالة, علي سبيل المثال فإن بعض قطع توت عنخ آمون لم تشهد أي نوع من الترميم منذ اكتشافها في عهد كارتر.1922 ولم يكن الترميم في عهده يسير بالشكل الذي توصل إليه العلم الآن بطبيعة الحال, لأن كل ما كان يتم الاعتماد عليه بشكل أساسي في ذلك الوقت هو صب الشمع المغلي بكميات كبيرة علي الأثر! وقد ساءت أحوال الكثير من القطع الأثرية عن حالتها عندما اكتشفها كارتر, الذي وثق كل قطعة تم العثور عليها, بتصويرها ومنحها رقما ووصفا لحالتها عند العثور عليها, وهو ما تم توثيقه في العصر الحديث علي موقع إلكتروني متخصص في آثار توت عنخ آمون الذي يعد مرجعا لنا في التعرف علي الشكل الأصلي للأثر. تأسيس المدرسة المصرية في الترميم أضف إلي ذلك أن المركز تم إنشاؤه ليصبح بمثابة صرح تعليمي عظيم يكتسب فيه العاملون خبرات عظيمة لتتم الاستعانة بهم في وزارة الآثار والمتاحف لترميم الآثار, بل يمتد الأمر لآثار في منطقة الشرق الأوسط ومنها للعالم. ولأن له أهداف تعليمية تدريبية فإن كل المرممين يحصلون علي دورات تدريبية من الجايكا في اليابان ومصر للتدريب علي أحدث أساليب الترميم في العالم, وهناك دورات تبدأ كل أسبوعين في المجالات المختلفة. كما أن بعض المرممين زاروا أكبر معامل الترميم العالمية في دول لها سمعة دولية متميزة في هذا المجال ومنها إيطالياواليابان و ألمانيا وفرنسا, وقاموا بالنشر العلمي علي القطع التي يشتغلون عليها, فهم يكتشفون أثناء العمل حقائق جديدة وخامات جديدة غير مسبوقة في مجال الآثار والترميم. ومن المخطط أن يصبح المركز واحدا من أهم مراكز ترميم الآثار في العالم ما لم يكن أهمها. المدرسة المصرية في الترميم وداخل معمل ترميم الآثار الخشبية التقينا جيلان محمود, رئيس المعمل, التي أكدت في فخر أن العمل يقوم علي فلسفة تأسيس المدرسة المصرية في ترميم الآثار لأول مرة, وهو جانب له أهميته القصوي, وقد بدأنا بالفعل نؤسس لقواعد هذه المدرسة, ومن أهم هذه القواعدأقل تدخل ممكن, و أفضل ترميم ممكن, كما أن هناك مبدأ آخر وهو الصيانة الوقائية, وهي العمل علي تحقيق ما يعرف باستقرار وتثبيت حالة الأثر من عوامل الرطوبة والحرارة ودرجة الإضاءة المحيطة به, أي نوفر له البيئة المناسبة للعرض التي تحافظ عليه وتطيل عمره, ويتم التعامل مع كل قطعة أثرية بشكل منفرد كحالة خاصة بذاتها, سواء من حيث خطة العمل أو الخطوات أو أسلوب الترميم أو المواد المستخدمة وأنتظر لحظة العرض بعد الافتتاح في شغف.. فهي اللحظة التي سيري فيها العالم كيف حافظ المصريون علي تاريخ أجدادهم بعراقته وأصالته للإنسانية. بيئة ملائمة واستقرار للأثر توضح أن أهم القطع التي يتم العمل عليها الآن هي مجموعة توت عنخ آمون, وفي مقدمتها السرير والعجلات الحربية, وهما من معروضات المتحف المصري في التحرير, وبالطبع البيئة هناك من الرطوبة والحرارة والإضاءة لم تكن مثالية لهذه الآثار, فحدث انفصال في طبقات التذهيب وتساقط لبعض الأجزاء, علي العكس من المتحف الكبير الذي يتميز بتوفير كل عوامل الاستقرار للأثر. بل إن الاستعداد لترميم آثار توت عنخ آمون بدأ منذ كانت الآثار في فتارين العرض بالمتحف بالتحرير لضمان تأمينها, بحيث لا يحدث أثناء النقل أي ضرر.ومن المنتظر أن يستمر العمل علي ترميم مجموعة توت عنخ آمون حتي الافتتاح الجزئي في2018, ليعقب ذلك العمل علي القطع التي ستضمها المرحلتان الأخريان. وفي جولتنا داخل معمل المنسوجات اطلعنا علي الصور الخاصة ببعض الآثار قبل ترميمها في المركز حيث يقوم المرممون بتصويرها قبل البدء في العمل, فكانت في حالة تلف شديد أو بعضها كان مقسما لأجزاء, ثم شاهدناها بعد الترميم, لنجدها نسخة من شكلها الأصلي, علي سبيل المثال, صندل أثري قبل وبعد, ودروع ومساند وصناديق وعقود وغير ذلك, كانت متفككة وأصبحت غاية في الجمال. وحول ذلك أوضحت لنا حسناء عبد ربه إخصائية ترميم في المعمل أن من أهم ما قامت به ترميم أقواس توت عنخ آمون المصنوعة من الخشب والتي يدخل فيها العاج والذهب فتم علاج الألوان المتساقطة ودعم الأجزاء الآيلة للسقوط, كما تمت إزالة الكتان الذي كان يستخدم كدعم لها واستخدام الحرير بدلا منه للمحافظة علي هويته كدروع احتفالية مفرغة. وبدقة شديدة كان محمد يسري إخصائي الترميم بالمتحف الكبير يعمل علي ترميم عقد أثري قائلا لنا: أعمل الآن في عقد يخص مجموعة الملك توت عنخ آمون عندما استلمته كان مدمرا, فلم يكن هناك أي شيء يربط بين وحداته وأجزائه, لأن الخيوط والحبال التي كانت موجودة فيه تعرضت للتحلل, وجاء لنا عبارة عن أجزاء مفككة موضوعة في صناديق صغيرة وبعد أن قمت بإجراء دراسة حوله, بدأت أعرف تصميمه وترتيب الوحدات, والآن أعمل علي إعادته لشكله الأصلي طبقا للصورة التي التقطت له عند اكتشافه, وبدأت أجمعه باستخدام خيوط تمت معالجتها بشكل علمي صحيح, ولا تغير من حالة الأثر أو تتسبب في أي ضرر به علي المدي البعيد. ولذلك لا أستخدم أي مواد كيميائية. أول منطقة للآثار الثقيلة بالعالم أما معمل الأحجار الثقيلة فإنه معمل مختلف تماما عن المعامل الأخري بسبب طبيعة الآثار التي يستقبلها, إذ تتراوح أوزانها ما بين5 أطنان إلي20 طنا, ويعد المعمل والأجزاء الملحقة به أول منطقة آثار ثقيلة علي مستوي العالم كله, فعندما تدخله تجد أمامه منطقة مخصصة لاستقبال الآثار من الأوزان الثقيلة, ومن الجهة المقابلة يوجد كوبري تسير عليه عربات الهيدروليك التي تنقل القطع الأثرية بعد ترميمها, لتسير عبر ردهة إلي المخازن الخاصة بالآثار الثقيلة. وفي هذا المعمل توجد أيضا أحدث الأجهزة المتخصصة مثل الأوناش العلوية الموجودة في السقف وهي تعمل في4 اتجاهات, عدد2 ونش علوي منه, يحمل حتي20 طنا, وونش ثالث اسمه ونش البوابة الياباني, وهو قابل للعمل داخل المعمل وخارجه, بالإضافة إلي الحبال التي تستخدم في رفع الأثقال وهي مصنوعة من مواد لها قوة احتمال, ولها تاريخ صلاحية, وهناك في إحدي الزوايا توجد أدوات الأمن والسلامة الخاصة بالمرممين, وكافة الأدوات التي يمكن هناك الاحتياج إليها في ترميم الآثار الثقيلة, وهنا أيضا يتم اتباع فلسفة لا للاستكمال كما يوضح لنا حسام راشد رئيس معمل الآثار الثقيلة إلا في حالة الحلول التدعيمية مثلما حدث عند ترميم تمثال سخمت, حيث تم إجراء استكمال في القاعدة لأنه دونها لم يكن من الممكن أن يثبت التمثال, وهي متحركة غير ثابتة, ويمكن الاستغناء عنها في أي لحظة لو توصل علم الترميم مستقبلا لأي بديل.